
كتبت بديعة زيدان:
تُعد رواية "بنت من القدس الجديدة" لأسامة العيسة، الصادرة حديثاً عن منشورات المتوسط في إيطاليا، نصاً سردياً مشاغباً للتاريخ، يبتعد عن السرديات البطولية التقليدية للقضية الفلسطينية، ليغوص في التاريخ الاجتماعي والنفسي لمدينة القدس وسكانها، من خلال مأساة فردية تتحول إلى استعارة كبرى للضياع.
تدور أحداث الرواية حول "صالحة"، وهي فتاة مقدسية من حي "البقعة" (القدس الجديدة)، ابنة الصحافي المتنوّر "صالح أبو صالحة".. الحدث المحرك للرواية صادم وغرائبي، بحيث تذهب صالحة إلى المحكمة الشرعية (المدرسة التنكزية سابقاً) لتشتكي "محمد حنا" (مسيحي يحمل اسماً مركباً)، مطالبة إياه بـ"ثمن بكارتها" التي "انتهكها" بطريقة غير مشروعة، معتبرة أن هذا حق لا يسقط، بالاتكاء إلى حكم سابق من محكمة البداية.
تستعرض الرواية تفاصيل الحياة في الأحياء الجديدة خارج الأسوار (البقعة والقطمون) كرمز للحداثة الفلسطينية التي كانت تتشكل، فقد بنى والد صالحة منزلاً حجرياً جميلاً في حي البقعة، يرمز للاستقرار والنهضة العمرانية، فيما تظهر صالحة كفتاة عصرية، تقود دراجة نارية، وتذهب للسينما، وتعمل في فندق الملك داود، وتسجل في مفكراتها تفاصيل الحياة اليومية، والمشتريات، والديون، وحتى متابعتها للأغاني والإذاعات، ما يعكس نمط حياة منفتحاً يختلف عن انغلاق البلدة القديمة.
والدها "صالح أبو صالحة" صحافي ومثقف، كان عضواً في "جمعية الاتحاد والترقي"، وطرح فكرة دولة موحدة (إسراطين) كحل سياسي مبكر، لكنه قوبل بالسخرية والتخوين.
تتقاطع مأساة صالحة الشخصية مع الكوارث العامة التي حلت بفلسطين، كحادثة تفجير فندق الملك داود، حيث كانت تعمل، هي التي نجت من التفجير الذي نفذته عصابة "الأرغون" الصهيونية في العام 1946، وشاهدت الدمار الذي لحق بالمكان الذي كان يمثل جزءاً من عالمها الحديث، وكسقوط "البقعة" في العام 1948، بحيث تصف الرواية بدقة مؤلمة لحظات سقوط الحي.. لم تكن معركة عسكرية بقدر ما كانت عملية استيلاء ونهب، حيث دخلت العصابات البيوت، وسرقت الأثاث، والسجاد، والبيانو، وحولت المنازل العامرة إلى ركام أو مساكن للمهاجرين الجدد.
غادرت صالحة ووالدها القدس على أمل العودة قريباً (إجازة قصيرة)، حاملين حقائب صغيرة، متجهين إلى القاهرة، وتحديداً للعيش في حي مصر الجديدة (هليوبوليس)، الذي كان يشبه في حداثته "القدس الجديدة" المفقودة، وهناك عاشا وسط جالية فلسطينية تنتظر العودة، يجترون الذكريات ويتابعون الأخبار السياسية بأمل يتضاءل تدريجياً.
توفي والد صالحة في القاهرة مقهوراً، لتدفنه هناك، وتفقد السند الأخير الذي كان يربطها بماضيها وعزتها، وبعد حرب العام 1967، واحتلال ما تبقى من القدس، تقرر العودة، لكنها تجد مدينة مختلفة تماماً، فحين تذهب إلى منزلها تجده مسكوناً من قبل عائلة يهودية، ولم يتبقَ من ماضيها سوى شجرة الكينا والبيانو الذي لم يعد يعزف ألحانها.
وهنا تدرك صالحة أن ضياع "بكارتها" كان استعارة لضياع المدينة بأكملها، حيث لم يعد هناك من يطالب بحق أو يعيد ما سُلب، لينتهي المطاف بها في مستشفى للأمراض العقلية (دير المجانين) في بيت لحم، المكان الوحيد الذي يتسع لذاكرتها ومأساتها، قبل أن تموت وحيدة وتدفن في "مقبرة الغرباء".
وهذه التفاصيل ترسم مساراً من الصعود ممثلاً بالانفتاح إلى الهبوط ممثلاً بالنكبة والمنفى والجنون، جاعلة من جسد صالحة وحياتها خريطة لمدينة القدس وتحولاتها التراجيدية، فبكارة صالحة هي المعادل الموضوعي لـ"فلسطين" أو "القدس" نفسها، ومطالبة صالحة بـ"ثمن البكارة" في المحكمة صرخة عبثية ترمز لمطالبة الفلسطينيين بحقوقهم المسلوبة من قوى استعمارية أو متواطئة، وهي حقوق لا تُسترد.
أما "القدس الجديدة"، فترمز إلى الحداثة الفلسطينية المجهضة، خاصة أنّ الرواية تركز على العائلات التي خرجت من أسوار البلدة القديمة لتبني حياة عصرية (بيوت حجرية، وبيانو، ولغات، وانفتاح)، وكيف تم تدمير هذا "الفردوس" ونهبه، بينما يمثل "محمد حنا" الخديعة، أو ربما التناقضات الهوائية للواقع، فهو مسيحي يُدعى محمد، يستغل صالحة ثم يتنصل منها، تماماً كما تنصلت القوى الدولية من وعودها للقدس.
أمّا استخدام مفكرة "صالحة" التي تحتوي دعاية بريطانية لتدوين مأساتها الشخصية، فيرمز إلى سحق السردية الفردية الإنسانية تحت عجلات البروباغندا السياسية الكبرى.
الشخصية المحورية هي "صالحة"، وهي ليست مجرد ضحية، بل هي "القدس" المتمردة والمكسورة.. شخصية إشكالية، جريئة لدرجة الوقاحة كما قد يراها البعض، لكنها مثقفة، وإن انتهى الأمر بها بالجنون أو ما يشبهه، وهي تمثل الجانب الإنساني المغيّب للمدينة المقدسة.
القاضي الذي ينظر في القضية، ويلقب نفسه بالتنكزِي، غارق في التاريخ المملوكي، يهرب من قضايا واقعه إلى مخطوطات التاريخ وسيرة الأمير "تنكز"، يتعاطف مع صالحة إنسانياً لكنه يجد نفسه مكبلاً بالنصوص والإجراءات، فينتهي به الأمر إلى إحالة القضية للمحكمة الكنسية، ما يعني ضياع حق صالحة عملياً، وهو هنا يمثل السلطة العاجزة، والمثقف الذي يهرب من "القدس الحالية" المليئة بالدناسة والرعب إلى "القدس التاريخية" (زمن المماليك وتنكز) عبر الكتابة والبحث، في محاولة لترميم الواقع عبر التاريخ.
ويمثل صالح أبو صالحة (الأب)، المثقف الفلسطيني التنويري المهزوم، وهو صحافي أسس جريدة تدعو للحرية، واقترح دولة موحدة (إسراطين) مبكراً، لكنه انتهى لاجئاً ومهمشاً، في ترميز لجيل النهضة الذي انكسر مشروعه.
ومَنَحَ حضور خليل السكاكيني كشخصية حقيقية، الرواية، مرجعية تاريخية وتوثيقية، كممثل لضمير القدس التعليمي والتربوي الذي شهد على النكبة وضياع مكتبته الشخصية، التي ترمز لضياع الذاكرة الثقافية.
تميّز أسامة العيسة في هذه السردية بكسر الإيهام الروائي، حيث الراوي لا يكتفي بالسرد، بل يتدخل بصفته "كاتب مجانين بيت لحم" أو "الروائي"، يعلق على الأحداث، ويخاطب القارئ مباشرة، ويسخر من شخصياته أحياناً.. هذا الأسلوب يجعل من الرواية "بحثاً في كيفية كتابة الرواية" وتوثيقاً للتاريخ المنسي والمهمش (تاريخ الجنون، والمومسات، والمهمشين)، بدلاً من تاريخ القادة والزعماء.
وتدمج الرواية بين الخيال والوثيقة، حيث يستحضر الكاتب نصوصاً من سجلات المحاكم الشرعية المملوكية والعثمانية، ومقالات صحافية قديمة، وقصائد، ليعطي السرد عمقاً أنثروبولوجياً، كما تتميز بتعدد الأصوات، بحيث تتنقل الرواية بين صوت الراوي العليم، ويوميات صالحة (المفكرة)، وأبحاث القاضي التاريخية، ما يخلق منها فسيفساء لمدينة القدس.
أما اللغة فهي مشحونة بسخرية مريرة، وهي لغة تمزج بين الفصحى الرصينة (خاصة في استعارة لغة السجلات القديمة)، وبين روح اللغة المحكية الفلسطينية المقدسية، كما أنها مثقلة بالمعرفة التاريخية والجغرافية.
وتُخرج الرواية القدس من كونها "رمزاً دينياً" مقدساً وجامداً، لتصبح مدينة من لحم ودم، فيها "الدناسة" كما "القداسة".. إنها مدينة البشر بخطاياهم ونزواتهم، وليست مدينة الملائكة فقط، مركزة على تاريخ الناس العاديين، فيما كان تناول موضوع "البكارة" وربطه بضياع الوطن مدخلا جريئا وغير تقليدي في الأدب الفلسطيني.
لكن القارئ، قد يشعر أحياناً أن صوت "الباحث" يطغى على صوت "الروائي"، خاصة في الفصول التي تتناول تفاصيل العصر المملوكي والأمير تنكز، ما قد يقطع التدفق العاطفي لقصة صالحة، كما أن الانتقال بين الأزمنة والشخصيات الكثيرة، مثل: روبرت كندي، واللورد بيل، وشخصيات عابرة عدة، قد يشتت القارئ عن الخط الدرامي الرئيسي.
ورغم ذلك، يمكن اعتبار رواية "بنت من القدس الجديدة" مرثية جارحة للحداثة الفلسطينية التي قُتلت في مهدها، وكأن العيسة يطالب باستعادة ذاكرة مدينة كاملة تم انتهاكها، ليس فقط عسكرياً، بل ثقافياً وإنسانياً.. إنها رواية تقول، إن ضياع "البقعة" و"القطمون" وبيوتهما الجميلة، جرح لا يقل عمقاً عن ضياع المقدسات.