انسجم صعود القعيد إلى أعلى الشجرة خطوة خطوة إلى الأعلى مع تقنية البنية الروائية، بما يشمل الأحداث وبناء الشخصيات والتي بذر بذور ملامحها في بداية الرواية، وتابع ذلك بشكل متدرج، حيث يسرد في كل فصل خطوة صعود، ما يبني به الأحداث والشخصيات ومآلاتها.
كما انسجمت تقنيات السرد مع تقنيات قام بتركيبها (سرير متحرك) لتساعده في الصعود، متابعاً ذلك بالاعتماد على ساعديه؛ فقد جعل الروائي هنا تذكارات القعيد سليم، أكانت ألماً أو أملاً، رافعة، بل محفزة له للصعود، موحياً بدلالة القفز من خلال استعادة القرد الكسلان.
إنه إذاً ليس طموح اعتلاء القعيد لشجرة عالية واقعياً، وإن كان ذلك ملفتاً للنظر، بل هو تتويج لرحلته في الحياة منذ أصيب في حادثة بناء البيت وصار قعيداً.
هل هو صعود وطن وشعب؟ وهل لاسم القعيد «سليم» دلالة معينة لمنح الأمل؟
من فضاء مكاني ميثولوجي آخر، شكّلت «شجرة الجميز» في واحة أريحا مسرح الرواية، في حين تم استدعاء ماضي «سليم» وأسرته، قبل قعوده، وما بعد ذلك، وصولاً إلى حادثة تسلق الشجرة التاريخية الكبيرة، في فانتازيا ممكنة الوقوع، بدافع الصعود الرمزي والخلاص الفردي والعام، وصولاً إلى تعميق التساؤل الذي واكب الرواية من البداية: أكان لا بد للقعيد سليم تسلق الشجرة؟
ربما من المهم هنا التعرف على شجرة الجميز، والتي كان من الممكن أن تكون كباقي الجميزات في أريحا، لولا أن ارتقى عليها العشار زكا، لمناداة السيد المسيح، بسبب قصر قامته.
فكرة الصعود: لعلّ تسلق شجرة الجميز يعني الأمل، وإن كان التسلق بحدّ ذاته مؤلماً. لذلك فإن تأمل الجميزة وزكا ضرورة لفهم سياق المكان الرمزي التاريخي والواقعي. وكان «سليم» قد فكّر من قبل باعتلاء «بلوطة إبراهيم» في مدينة الخليل، لكن الذي غيّر رأيه هو أن شجرة الجميز أكثر نعومة.
هي رحلة القعيد سليم، وما استطاع إنجازه في الحياة رغم إعاقته، بما يتضمن الإنجاز العملي والاعتماد على النفس لدعم نفسه وعائلته، والإنجاز الرمزي - الواقعي، المتمثل بصعود شجرة ترتفع عشرين متراً.
نحن إزاء شخصيات ركّز عليها الكاتب: سليم، وهو الشخصية الرئيسة، وعواطف، وأمل وسامي، والأب، وشروق، والفوضوي، وإن كان ظهور سليم وعواطف هو الأكثر. وهي كما صورها شخصيات تعثرت في خطواتها، فهي ما بين العجز وما بين الاضطراب.
يبدأ سليم حياته ككل الأطفال، تضطره الحياة لمساعدة والده في مهنة البناء، لكن يكون لعدم الدقة في تقوية السقف المصبوب بالباطون أثر في سقوطه على الفتى، الذي يسلم من الموت، لكنه يصاب بشلل ما في الرجلين. (ولعل هنا رمزية ما تتعلق بالبناء. يظهر سليم قارئاً، وطموحاً لا يستسلم لإصابته، فتراه يعمل كخطاط مبدع، وتراه لا يكتفي بالبقاء في غرفة، بل يصعد إلى سطح البيت، كذلك يبادر إلى ركوب الخيل ليكون فارساً. يطور من وسائل حركته، ثم بسبب حاجة الأسرة للدخل، يفتح دكاناً، حيث يكون قد خطط لحركته داخل الدكان. يستسلم الأب للشرب، ما يعرّض الأسرة للحرج. أضاف الكاتب شيئاً يخص بتعددية مشاعر الابن تجاه أبيه، ما بين الاستنكار والشكوى والحنان.
أما عواطف التي سماها العائدة، والتي استعاد من خلالها زمناً سابقاً لما كان بينهما، وما كان من زمن قبل إصابته، حيث يعاني هو ما عانى من حرية الحركة الجسدية، في حين تستلب إرادتها العاطفية، ويتم تزويجها من دون اختيارها.
وهي التي يختارها لتسهيل وصوله من بيت لحم إلى أريحا لصعود شجرة «الجميز». وهي التي ظهرت داعمة له، ولعلّ جرها لسريره الخاص به (كمعاق جسدياً) له معنى داعم. وهي التي ارتبط بها من قبل، لكنها سافرت، ثم عادت لاستئناف الارتباط رغم ما حدث له من إعاقة.
وكان لعواطف العائدة، أثر في استعادته لقصة الحب أيام المدرسة، وقد وفق الكاتب في التعبير الأدبي عنها، من خلال التعرضّ لرسائل الحب، لكن مصير عواطف يتحدد في مرحلة بأهلها حين زوجوها لشخص قام بخداعها في رحلة الاغتراب، فتصاب بآلام تدفعها إلى الهرب من تلك البلاد البعيدة لتعود إلى الوطن وليتهمها زوجها بالسرقة.
يستعيدان معاً سليم وعواطف العلاقة من جديد، وصولاً إلى الارتباط العاطفي الصادق، والذي يتوّج بالسباحة معاً في الماء، حيث يشعر سليم بتحرره الجسدي، فيضمها فيستعيد قدرته، فالحب هنا هو دينامو الحرارة.
أما أخته أمل، فيكون داعمها، اختار لها مصيراً آخر، حيث زوج أخواته وبقيت هي معه في رحلته، فهل اختارها إلى جانبه لدعمه ولتمنحه الأمل؟
تظهر في محيط شخصية أمل شخصية شروق. أما الأخ سامي، فيؤدي سوء الأحوال إلى انهياره وذهابه إلى مستشفى الأمراض العصبية. ولعل إيراد الكاتب على لسان أحدهم «بأن المجانين أكثر عقلاً» محاولة للإيحاء بأثر التحولات الصادمة في المجتمع، وكان يمكن تقبّل ذلك لو تم التعمق بها.
أما حكاية اليساري وزوجته وتبني المولودة لظروف حماية الأمّ، فيمكن أن نعدّها قصة داخل النص العام، والمفارقة أن الزوجة التي لم تحمل من قبل، حملت بعد تبني المولودة.
الشكل والمضمون
وعودة إلى تقنية السرد، فمن أمثلة السرد المتدرج، سرده عن تصوير شخصية سليم، في فصول متعددة: 3، 7، 9، 10، ما يذكرنا بروايته الثانية «امرأة عائدة من الموت» التي صدرت عام 2011. وهذا ينطبق على باقي الشخصيات خاصة شخصية عواطف. ومن المفيد التذكير بأن سلك سلوك السرد من خلال سرد الآن ثم استدعاء الماضي.
استخدم الكاتب ضمير المتكلم السارد، وزاوج في الفقرة الواحدة، بل في العبارة الواحدة ما بين ضميرَي المتكلم والغائب، إحداث حيوية سردية، محاولة لحضور الأصوات المتعددة، التي لم تحضر فعلاً.
نختتم مقالنا بأن اختيار الشكل الفني للرواية، كان استجابة لمضمون الإرادة التي تتقدم دوماً إلى الأمام (والأعلى)، حيث تتداعى الذكريات للصاعد، فيتذكر ما كان من أحداث لتصير وقوداً يدفعه للاستمرار بالفعل، وهنا فإن اختيار تقنية السرد لاءمت المضمون النفسي للقعيد سليم، الذي خرج سالماً من كل هذه العواصف محققاً خلاصه الرمزي لخلاص شعبه من خلال تأمل خلاص الشخصيات داخل الرواية، خصوصاً خلاص عواطف النفسي والاجتماعي.
ـــــــــــــــــــــ
* صدرت الرواية عن مكتبة كل شيء في حيفا 2025، ووقعت في 150 صفحة من القطع المتوسط.
Ytahseen2001@yahoo.com