في العام ١٩٧٥ سكنت في غرفة على السطح في جبل الحسين في عمان، ومن وحيها كتبت قصة قصيرة عنوانها «البصاص».
كانت البناية لامرأة تدرّس إحدى ابنتيها الطب، ويبدو أنها كانت قارئة أدب، فقد أعطتني مجموعة كتب منها مجموعة (جان بول سارتر) القصصية «الجدار» التي ترجمها هاشم الحسيني في ١٩٦٣ وأصدرتها دار مكتبة الحياة في بيروت.
قرأت القصة في حينه، ولم أكن قرأت بعد أي عمل لغسان كنفاني الذي عرفت لاحقاً، من خلال دراسة وليد أبو بكر لمسرحياته، أنه تأثر فيها بالأدب الوجودي، وما كتبه وليد يلاحظه قارئ المسرحيات والأدب الوجودي معاً. ما لم أقرأه، وقد يكون هذا لنقص في اطلاعي أو للذاكرة الخداعة، هو الربط بين روايات غسان والأدب الوجودي.
قادتني الكتابة عن الحاجز والجسر والمعبر والمفتاح والأبواب والبوابات في الأدب الفلسطيني إلى البحث عن الكتابة عن الجدار بمفهومه الأوسع من حائط الغرفة أو جدران المنزل، كما في سيرة فدوى طوقان «رحلة صعبة.. رحلة جبلية» أو في أثناء الكتابة عن قصيدة عوض «يا ليل خلي الأسير تا يكمل نواحو» أو في أدبيات السجون، حيث جدران البيت والزنزانة وغرف السجن أو سوره، هي الجدار. ما أقصده هنا «الجدار» الذي يفصل بين كيانين أو مناطق ومناطق، وهذا لم يبن قبل ٢٠٠٢.
عموماً تعد رواية غسان كنفاني التي أتى فيها على احتلال غزة، في ١٩٥٦، أول عمل أدبي أذكره ذكر فيه الجدار بمعان عديدة؛ الحائط والحائط النفسي والمجازي؛ في مشهد البحث عن الفدائي سالم الملاحق من قوات الاحتلال، وفي حديث مريم عن ضرتها، وفي رؤية حامد للشمس وهو في الصحراء. مؤخراً تساءلت إن كان كنفاني تأثر بقصة «الجدار» لـ (سارتر)، ولتوضيح ذلك أحتاج إلى مساحة أؤجلها للأسبوع القادم.
حضرت، قبل العام ١٩٦٧، في الأدبيات الفلسطينية دوال البوابة والباب ليس أكثر، وهو ما لاحظناه في مقالات الأسابيع الخمسة السابقة، أما دوال الجسر والمعبر والجدار، فلم تحضر؛ لأنه لم يكن هناك جسر ومعبر وجدار أو جدران.
لننظر، على سبيل المثال، في قصة توفيق فياض «الحارس» من مجموعته «الشارع الأصفر» التي كتبت قصصها قبل ١٩٦٧ ونشرت في ١٩٦٨.
يصور فياض معاناة بو علي الذي فرضت عليه وعلى سكان قريته أن يحرسوها من المتسللين إليها من القرى الفلسطينية الواقعة في الضفة الغربية تحت الحكم الأردني. ويخيل إلي أن القصة يجري حدثها إما في برطعة أو في باقة، فالقريتان ينطبق عليهما الوصف الذي نقرؤه على لسان بو علي الذي زوّج ابنته لفلسطيني من الجانب الآخر للقرية الواقع تحت الحكم الأردني.
يحرس بو علي القرية حتى لا تعاقبهم السلطات الإسرائيلية، إن تسلل لاجئ فلسطيني استبد به الحنين إلى بيته أو أهله، والحنين يستبد ببوعلي لرؤية ابنته في الطرف الآخر. وما الذي يفصل بين طرفي القرية الغربي والشرقي؟
«ولا يفصله عنها غير ثلم خطّه في الأرض ثور. لا أحد يصدق ذلك! إنه يكاد يسمعها تهلل لابنتها، بل إنه يسمعها..».
لم يكتب فياض عن جدار، بل كتب عن «ثلم خطه ثور».
عندما زرت باقة الغربية في ٢٠١٩ أتيت في حديثي مع بعض أبنائها على القصة وعلى ما كتبه الكاتب الإسرائيلي (ديفيد غروسمان) في كتابه «الزمن الأصفر» عن برطعة الغربية وبرطعة الشرقية تحت عنوان «برطعة الثانية». من أبناء باقة علمت أن هناك مربعات اسمنتية كانت تفصل بين الباقتين، وعندما زرت قرية «جت» رأيت الفاصل بينها وبين قرى الضفة الغربية: مساحة من الأرض ليس أكثر، كما أن ما فصل بين البرطعتين واد ليس أكثر (اُنظر ديفيد غروسمان «الزمن الأصفر» ترجمة محمد حمزة غنايم ١٩٨٧).
متى بدأ دال «الجدار» كسورٍ يحدد حدوداً يظهر في الأدبيات الفلسطينية؟
لا أستطيع الجزم، فلا تحضرني النصوص كلها التي كتب فيها الأدباء الفلسطينيون عن جدُر أو عن جدار، وغالباً ما يردد الفلسطينيون في حديثهم الآية (يحاربونكم من وراء جدُر). ولسوف أعتمد على الذاكرة في استحضار ما تحفظ.
في قصيدة محمود درويش «بيروت» ١٩٨١ وفي قصيدته «صهيل على السفح» ١٩٨٦ يظهر دال الجدار لافتاً، وغالباً ما كنت أتغنى فيه طرباً أو ألماً أو حزناً. في الأولى يطلب الشاعر من بيروت أن تعطي الفلسطينيين جداراً واحداً ليصيحوا: يا بيروت! ولكي يروا أفقاً ونافذة من اللهب، ولكي يعلقوا فوقه سدوم التي انقسمت إلى عشرين مملكة لبيع النفط العربي، ولكي يصيح الفلسطينيون في شبه الجزيرة: بيروت خيمتنا الأخيرة، بيروت نجمتنا الأخيرة!»، وفي الثانية حيث يعدّ لسيدته صورته، فقد قرر أن ليس أمامه إلا الصعود، وهذا قد يودي بحياته، ويطلب منها أن تعلقها، إذا مات، فوق الجدار:
« تقول: وهل من جدار لها؟ قلت: نبني لها غرفة.. - أين.. في أي دار؟».
ولا جدار للفلسطيني يستند عليه.
وعموماً يمكن القول إن الجدار والكتابة عنه بدأ يلفت النظر بعد حزيران ٢٠٠٢ حين شرعت السلطات الإسرائيلية تبني جداراً فاصلاً بين المناطق المحتلة في ١٩٤٨ والقدس وبين مناطق من الضفة الغربية، وأيضاً بين إسرائيل وقطاع غزة، وهذا ما نلحظه في كتابات كثر مثل ناصر أبو سرور «حكاية جدار» وسمير الجندي «خلود» و «باب العمود» وبسام سليمان «ثقب في الجدار» وغيرها، وهذا يستحق متابعة لعل هناك من ينجزها!