بهذا المقال أصل إلى الرقم 1000 من المقالات المنشورة على «الأيام»، لا أعرف عدد القراءات التي حظيتُ بها، لكني سأشكر كل من تفضل بقراءة ما كتبت.
آخر مائتي مقال خصصتها لحرب الإبادة على غزة، وهذا أقل الواجب، من تابعني يعرف أني كنت منحازاً للناس، لآلامهم وعذاباتهم، حاولت وصف أهوال الحرب، وتداعياتها، وكيف أثرت في المدنيين، في نفسياتهم، في نسيجهم الاجتماعي، في تأملاتهم لحاضرهم وخوفهم من مستقبل مجهول.. وفي صورة المقاومة وإمكانية استئنافها.
كما يعرف المتابع أني طالما انتقدت حماس، مركزاً في نقدي على تبنيها نهجاً خاطئاً في المقاومة، أدى إلى تدمير البلد ومقتل وإصابة مئات الآلاف دون نتائج.
وليسمح لي القارئ التحدث عن نفسي قليلاً بهذه المناسبة، فقد تلقيتُ بسبب موقفي الكثير من الانتقادات اللاذعة والتهكم والشتائم، وخسرتُ العديد من أهلي وأصدقائي. على سبيل المثال كان عدد أصدقائي على صفحة فيسبوك 5000 وهو الحد الأقصى المسموح به، كنت ألاحظ بين الفينة والأخرى أن هذا العدد يقل بحدود العشرين صديقاً بعد كل مقالة «صادمة»، مقابل عشرات طلبات الصداقة والمتابعة، ما خلق نوعاً من التوازن.
بقدر حزني على فقدان أي صديق، أشعر بفرح غامض، ليس لأن ضيفاً ثقيلاً حلَّ عني، بل لأنّ ما أكتبه يثير جدلاً، بين مؤيد ورافض، فالكاتب الذي يحظى بقبول الجميع وموافقتهم هو كالماء لا لون ولا طعم له، كاتب محايد، والحياد في أوقات تعرض الوطن لمحنة هو ضرب من التخاذل والجبن.. والكاتب الذي يثير غضب الجميع وحنقهم كاتب موتور ومأزوم.
أسوأ ما يفعله الكاتب محاولته إرضاء الجميع، وكتابة ما يشتهون قراءته، أو محاولته جلب المعجبين، وأن يتحول مقاله إلى «ترند».. هذا سهل، كل ما عليك فعله اكتب «ما يطلبه المستمعون»، بلغة السجع، أو التهكم والسخرية، وتهييج العواطف، والتركيز على نقاط الضعف الإنسانية.. انتقد لأجل النقد، وعارض أي شيء، ارفع الأدرينالين في شرايين القراء.. هذا النوع من الكتّاب الشعبويين لا يكذبون فقط لأن الكذب سهل ويستقطب قراء، أو لأنهم يريدون إثارة الجماهير.. هذا الكاتب المدعي يكذب لأنه يخاطب الجمهور فقط ليصنعوا منه بطلاً.. ليصبح هو فعلياً مركز الحدث ومحور حديث الناس، ويختفي الحدث الأصلي، ويختفي ضحاياه، وتضيع كل فرصة للتصويب أو للتقدم.. هذا النموذج من الكتابات المضللة كان الأكثر انتشاراً خلال سنتي الحرب.
الكتابة بالنسبة لأي كاتب تتحول من هواية إلى إدمان، أو إلى رسالة.. البعض يتخذها حرفة يتكسب منها (وهذا مشروع)، والبعض يسعى لإيصال صوته إلى الجمهور.. والبعض يتخذها وسيلة للوصول إلى غاية في نفسه.. البعض يكتب فضفضة، أو ليزيح عن كتفيه ثقل الواقع، أو ليبوح لقلمه كي لا يقتله الصمت، وحتى لا تظل أحزانه حبيسة في صدره، أو لبثّ حنينه وقلقه، ليشارك القراء مشاعره، أو حتى يستشعر بوجوده، ويتأكد أنه ما زال حياً.
البعض يكتب ليعرفه الناس، أو ليعرف نفسه، ويستكشف روحه.. البعض يتوهم أنّ الجماهير تنتظره واقفة على أطراف أصابعها، وأن كلماته ستغير الواقع، وستجعل الحياة معزوفة موسيقية، أو أنه سيجبر القيادة على تغيير سياستها، وأنه سينشر النور ويبدد العتمة.. وهذه نرجسية مفرطة.
قد تكون الكتابة جسراً للوصول إلى الحقيقة، وتلبية حاجات المجتمع، أو لملء صفحات الجرائد والمجلات، أو مجرد أحلام وخيالات واهمة، وتضليل، ودعايات، وطمعاً في الشهرة، أو للهروب من الواقع، أو حاجة فطرية لدى الكاتب لترك بصمة في العالم.
الكتابة هي ضمير الكاتب، تكشف ما بداخله؛ لأنها تفكيره المقروء.. الكتابة عملية توحد مع الذات لرسم صورة قلمية لما يشاهده وما يختبره من تجارب، وقد تغدو انفصاماً عن الواقع لرؤية انعكاسه على الذات، بكل شفافية.
هي السفر إلى ذوات الآخرين وسبر أغوارها؛ من يعيشون في متن المجتمع ويفعلون فيه الأفاعيل، أو يقبعون على هامشه.
هي تقمُّص لحالة الكون، والبحث في الوجود عن الكائنات والظواهر بكل حيادية. هي ولادة صوتنا الداخلي لجعل الصمت ممتلئاً بالمعنى، ولمنح الحياة جدوى وقيمة. ومع ذلك يظل السؤال: هل قيمة الكتابة تكمن في فن التلاعب بالكلمات، وتطويع سحر البيان؟ أم هي ذكاء التقاط الصورة من المشهد؟ أم هي اجتراح المعنى، والبحث عما هو مختبئ؟ أم هي القدرة على جعل البائس يسخر من بؤسه؟
كثيراً ما توقفتُ، متسائلاً: هل ثمة من يقرأ لي؟ هل ما أكتبه يستحق العناء؟ وتراودني أحياناً مخاوف أن يكتب أحدهم محتجاً: لقد أضعت وقتي بهذا الهراء.. مع كل خيباتنا ما زلتُ مؤمنا بجدوى الكتابة. وأن الكلمة أمانة، ومسؤولية، قد تودي بصاحبها إلى الدرك الأسفل من الجحيم..
لا أدعي أني بلغتُ غايتي، أو نجحتُ بالتعبير عن كل ما يجول في خاطري، واعترف أني جبنت عن كتابة مقالات في مواضيع فكرية ساخنة، بيد أني عبّرتُ عنها في بعض كتبي وقصصي.. كما عجزتُ عن مخاطبة جيل Gen Z، لانفصالي عن عالمهم الجديد .. لكن ما أفخر به أني لم أكتب حرفاً ضد قناعاتي، وكل ما كتبته يعبر عني بصدق.
اتهمني البعض بأني أكتب ما يرضي السلطة، وما يريده رئيس التحرير.. فعلياً كتبتُ الكثير منتقداً السلطة والقيادة، كما أن الكتابة ليست مصدر رزقي، ورئيس التحرير لم يتدخل مرة واحدة بما نكتبه، فلو خصصتُ مقالاتي كلها عن هشاشة التوازن البيئي في أستراليا، أو عن أخبار المشاهير ومصممي الأزياء، أو عن أسعار الذهب والنفط.. سأتقاضى الأجر نفسه، وربما أحظى بمعجبين أكثر.. رقيبي الوحيد هو الضمير، وصورتي أمام المرآة.
في صغري قرأتُ قصصاً ومقالات كثيرة، ما زلت أذكر بعضها، وأذكر كيف أثّـرت بي.. كل ما أطمح إليه أن أترك أثراً بسيطاً في نفس القارئ، أن ألامس قلبَ شاب على حافة اليأس، أو أن أجيب عن سؤال حيّر البعض، أو أن أطرح سؤالاً لم يخطر ببال القارئ أن يطرحه على نفسه.. أن أغني للأرواح المعذبة والمتوثبة والطامحة والعاجزة.. وأن أكتب عن الإنسان، بوصفه إنساناً قبل أي شيء آخر.
سأظل ممتناً لكم، وسأحاول الإطاحة بهواجسي ومخاوفي، لأواصل الكتابة، منقباً في مليون سؤال جديد، منحازاً للفقراء والناس العاديين، وقضايا العدالة والمساواة والتحرر والحرية والتطلع نحو المستقبل.