تاريخ النشر: 18 تشرين الثاني 2025


نقطة ضوء
ممداني وثلاث سمات للفوز..!!
الكاتب: حسن خضر

حالت أسباب تقنية دون نشر هذه المقالة الثلاثاء الماضي. وبما أن المسافة الزمنية التي تفصلنا عن فوز زهران ممداني بمنصب عمدة نيويورك قصيرة، فإن الأسباب التي حرّضت على كتابتها ما زالت قائمة. وهي الأسباب نفسها التي تبرر وقفة نعود بعدها إلى سلسلة «الحرب التي غيّرت العالم»، مع العلم أن بعض جوانب اللحظة الفارقة في تاريخ نيويورك وثيقة الصلة بالحرب المعنية.
لحادثة الفوز دلالات وتداعيات يتصل بعضها بحقل السياسة الأميركية، ومناطق أُخرى من العالم، بما فيها الشرق الأوسط. ومن الواقعي، تماماً، انتظار أن تعاني التداعيات نفسها، في الحالتين، من سوء الفهم، والتفكير الرغبي. وقد تجلى كلاهما بطريقة مُفزعة في الآونة الأخيرة. ولستُ، هنا، بصدد تقديم معلومات بيوغرافية عن ممداني، أو السياسة الأميركية، بل رسم خطوط عامة لما قد يمثّل إطاراً عاماً للتفكير في أمر كهذا، ويُسهم في تفسيره.
ولعل أوّل ما يستحق الذكر أن فوز ممداني شهادة للنظام الديمقراطي الأميركي، دون التقليل من حجم ما يعاني من نواقص، وتسليع، ومساع للانقلاب عليه من داخله وبأدواته. يمكن التفكير، بهذا المعنى، في حادثة الفوز كدليل على وجود قيم وآليات وضوابط تنتمي إلى النظام الديمقراطي نفسه، وفي وسعها حمايته والدفاع عنه. نيويورك ليست أميركا، ولكن ما يحدث فيها يتجلى كوسيلة إيضاح لقيم وآليات وضوابط تتوفر في ولايات أُخرى.
معنى القيم أن لا قيمة للخلفية الدينية، أو الإثنية، في صراعات الحقل السياسي للنظام الديمقراطي، فالأولوية لمبدأ المواطنة، والبرنامج، أي السياسة. أما الآليات والضوابط فوثيقة الصلة بالاحتكام إلى صندوق الاقتراع، مع كل ما ينطوي عليه من دعاية وتمويل ورقابة، والأهم ما يتجلى فيها من إيمان الناخبين بقدرتهم على تغيير الواقع، والقناعة بأن التغيير يمثل حقاً من حقوقهم.
يمكن العثور على علامات لكل ما تقدّم في حادثة فوز ممداني، التي تضع مبدأ المواطنة في مكانة أعلى من الخلفيات الدينية والإثنية، وتدل على أن البرنامج هو الفيصل في الصراع بين نخب مالية وسياسية من ناحية، وقوى اجتماعية جديدة وصاعدة من ناحية ثانية. ولأمر كهذا أهمية فائقة في زمن الظاهرة الترامبية، التي تهدد بتقويض النظام الديمقراطي.
السمة الأولى والأهم لفوز ممداني، إذاً، أنه يمثل شهادة للنظام الديمقراطي. وفيه ما يدل على أن الظاهرة الترامبية لا تمثل قدراً لا فكاك منه، ويمكن هزيمتها (كما حدث في نيويورك). أما السمة الثانية التي لا تقل أهمية عن الأولى، بل هي وثيقة الصلة بها، فتتمثل في البرنامج. تتجلى في برنامج ممداني، وخارطة طريقه، ميول «يسارية». ينبغي أن نضع تعبيرات من نوع اليسار بين مزدوجين، لأنها تنطوي على دلالات مختلفة في حقول سياسية مختلفة.
والواقع أن في مجرد الكلام عن ميول «يسارية» و»اشتراكية» في حقل السياسة الأميركية (ترامب يصف ممداني بالشيوعي، لأنها صفة أشد شناعة في قاموسه) ما يدل على تحوّلات هائلة طرأت على هذا الحقل بعد عقود طويلة من التعبئة الداخلية ضد «الخطر الأحمر»، ومكافحة النشاط المعادي لأميركا، الذي بلغ ذروته في المكارثية، وفي تحويل الرأسمالية إلى ديانة مدنية للأميركيين. ومع انهيار النظام الشيوعي في الاتحاد السوفياتي، وبلدان الكتلة الاشتراكية، بدت الرأسمالية وكأنها الخيار الوحيد لدى بني البشر في كل مكان.
ولا يبدو من السابق لأوانه، في سياق كهذا، القول: إن تيارات عميقة تجري في المجتمع الأميركي (المجتمعات الأميركية، إذا تحرينا الدقة) وإذا كنّا لا نعرف نتائجها النهائية، فإن إعادة الاعتبار إلى العدالة الاجتماعية، والتوزيع العادل للثروة، وكلها وثيقة الصلة باليسار، توحي بأن الموجة التي يمثلها ممداني، ويسار الحزب الديمقراطي، في صعود.
ومع كل ما تقدّم في البال، تبقى مسألة أخيرة لنتائجها القريبة والبعيدة، العاجلة والآجلة، تداعيات يصعب حصرها لا بالنسبة لأميركا وحسب، بل والشرق الأوسط، أيضاً. فعلى الرغم من حقيقة أن السباق على منصب العمدة في نيويورك يخص سكّان المدينة، ويتصل بقضايا حياتية وإدارية قد تتصل بالسياسة الداخلية في الولايات المتحدة، ولكنها بعيدة عن قضايا السياسة الخارجية، إلا أن الموقف من إسرائيل والفلسطينيين كان نقطة ساخنة على خط التماس.
واللافت أن اليمين الأميركي، وجناحه الليكودي، قد تجنّد بالكامل ضد ممداني. فعلاوة على دعم ترامب لأندرو كومو، منافس ممداني، وعلى ملايين كثيرة أنفقت على حملته الانتخابية، نشرت جماعات ضغط يهودية أميركية إعلانات تقول: إن ممداني يشكل خطراً على اليهود.. ودعا البعض في إسرائيل اليهود في نيويورك للهجرة إلى إسرائيل.
والملاحظ، هنا، أن عدداً ملحوظاً من سكّان نيويورك اليهود قد تجنّدوا لدعم حملة ممداني الانتخابية، وعمل بعضهم كمستشارين له. ولهذا دلالات تتجاوز الصراع على منصب العمدة في نيويورك. ففي الصراع ما يدل على انقسامات في صفوف اليهود الأميركيين. وبالقدر نفسه، في فوز ممداني ما يدل على أن تهمة العداء للسامية، التي كانت كفيلة بوضع حد للحياة السياسية والمهنية لكل من يوصم بها، فقدت قدراً كبيراً من عناصر قوتها. وفي الأمرين ما يوحي بتحوّلات وثيقة الصلة، أيضاً، بالتيارات العميقة التي تجري في المجتمع الأميركي.
ثلاث سمات للفوز، إذاً: شهادة للديمقراطية الأميركية، إعادة الاعتبار إلى قيم يسارية، وللمرّة الأولى في حقل السياسة الأميركية (بقدر ما أعرف) وجود الفلسطينيين على خط التماس في الصراع على قضايا داخلية بين قوى سياسية مختلفة. وإن كانت علامات للمستقبل، فخير وبركة.