لم تكن علاقتي بماجد أبو غوش «العمدة» يوما علاقة عابرة بين شاعر وكاتب أو بين صديقين يجلسان على مقهى في رام الله التحتا. كانت علاقة عمر. خمسة وعشرون عاما من الرفقة، من الطيش والجدية، من النقاشات التي تبدأ بأحوال الوطن وتنتهي بضحكة عالية تُسمع في شارع ركب كله. كنت كلما رأيته، شعرت بأن الشعر يمشي أمامي على قدمين، وأن الحياة ـ بكل قسوتها ـ تعتذر قليلا لأن ماجد موجود ليخفف من حدّتها.
من يقرأ تجربته يظن أنه يعرفه. لكنه لا يعرف شيئا. ماجد في الحياة أشد وحشية وجمالا مما يبدو في قصائده. هو ذلك الشاعر الذي ينتمي إلى «شعر الصعاليك» بمعناه العميق: الشعر الذي يشبه الكفّ التي تطرق باب الحقيقة دون استئذان. كتابة فطرية، شعبية، صادقة، لا تتجمّل ولا تتكلّف. لغته بسيطة حتى الفضيحة، لكنها تحمل من الحكمة أكثر مما تحمله كتب الفلسفة الثقيلة. لا يبحث عن المجاز ولا عن الفخامة، رغم أنه يكتب أجمل المجازات حين لا يقصد ذلك.
حين تقرأ «عصيان»، تشعر أن ماجد يكتب وهو يلهث من كثرة ما حملته السنوات على كتفيه. يقول، إنه لا يحب الكلام المباشر، لكنه يذهب للفكرة من أقصر الطرق، كمن يعرف أن العمر ليس طويلا بما يكفي للمراوغات. التجربة أنهكته، نعم؛ لكنه، مثل حصان عجوز قاتل طويلا، لا يزال يرفع رأسه في وجه الريح، حتى لو تغلّب عليه التعب أحيانا: «في الخمسين من عمرك تعدّ أيامك الباقية». ومع ذلك يصرخ: «رقصة أخيرة وأمضي…»
ماجد الذي أصدر إحدى عشرة مجموعة شعرية، لم يكن شاعرا يسكن الورق فقط. كان يسكن الأمكنة كلها. يعرف أزقة رام الله وطولكرم ويافا والقدس أكثر مما يعرف خطوط يده. كان يلتصق بالأرض كمن يخشى أن تُسلب منه ثانية، وكان يحمل عمواس معه أينما ذهب، كأنها قلبه السري الذي لا يُرى. وفي أحاديثه الطويلة معي عن الوطن، كنت أشعر أن فلسطين عنده ليست جغرافيا، بل امرأة، أم، صديقة، بيت، ومقهى، وطفولة لم تشفَ من الوجع.
لغة ماجد تنتمي إلى الناس. إلى الذين يعملون في الليل، إلى الذين يقفون في طوابير الحواجز، إلى النساء اللواتي يبعن الخضار قرب ميدان الشهداء. هو شاعر الهامشيين، الخارجين على القوانين. لا يجامل السلطة، ولا يهادن المثقفين، ولا يهزّ يده لمحرري الصفحات الثقافية في رام الله. يقولها بصراحة، «سأكتب نصا عاديا لا يزعج أحدا… يعجب محرري الصفحات الثقافية». إنه يضحك حين يقولها، لكنه يطعن في الصميم.
ومع أن شعره مليء بسرعة الأداء والحركة التي يضيق بها القارئ الدقيق، إلا أنني أعرف يقينا أن قلب ماجد كان منشغلا بما هو أكبر من همزة فوق ألف أو ضمة فوق آخر السطر. كان منشغلا بأن تبقى القصيدة حيّة، متوترة، خارجة من الشارع لا من قاعة تحرير لغوي.
يافا كانت دائما حبّه الأول. كان يحدثني عنها كأنها امرأة سرية لا يعرفها سواه. «يا ليتني حبة رمل تذوب في موج يافا»، يقول، وكأنه يتمنى أن يختفي في حضنها ليهرب من الحياة كلها. وحيفا؟ تلك المدينة التي كان يشتهي رائحتها كما يشتهي المراهق أول قبلة. أما غزة، فكانت بالنسبة له نبضا آخر: «العيد ما زال عالقا على باب غزة»، يقولها وكأن غزة طفل ينتظر عناقا تأخر طويلا.
وكنت دائما أقول له:
ـ ماجد، متى سنذهب لنصطاد السمك كما وعدت؟
فيضحك ضحكته الطفولية ويجيب:
ـ عندما يسمح الزمن… والزمن بخيل دائما.
كنت أعرف أنه يهرب من الفكرة، وأنه يؤجل اللقاء كما يؤجل شفاء داخليا لم يحن وقته.
واليوم، وهو على سرير المستشفى، ينتظر جسده أن ينهض كما ينهض البحر بعد ليلة عاصفة، أشعر أن موعدنا مع البحر أصبح له معنى أكبر. لم يعد موعدا لصيد السمك فقط، بل لاصطياد ما تبقى من ضوء في هذا العالم الموحش. أنتظر أن يقوم، أن يلبس معطفه الرمادي، أن يحمل دفتره القديم، وأن نقف على شاطئ يافا أو غزة أو أي بحر يقرّر أن يفتح لنا أبوابه.
ماجد…
يا صديقي الذي علّمني ألا أستسلم،
يا شجرتي البرّية التي لا تنحني،
يا شاعرا يشبه قاربا صغيرا يقاوم الغرق كل ليلة…
نحن بانتظارك.
والبحر بانتظارك.
والسمك أيضا، يا ماجد، ينتظر أن نمسك به معا كما حلمنا.