استقبلت مستشفيات قطاع غزة مئات الجثامين التي أعادها الاحتلال بعد احتجازٍ طويل، بعضها كان مفقوداً منذ شهور، وبعضها لم يُعرف له اسم بعد.
عادت الأجساد في أكياس بلاستيكية بيضاء تحمل أرقاماً بدلاً من الأسماء، لكن الأثر لا تُخطئه العين الفلسطينية الخبيرة: تعذيب، تقييد، تشويه، وإهانة حتى بعد الموت.
الصور الأولى القادمة من غرف التشريح تُظهر مشاهد مرعبة: معاصم مقيّدة، عيون معصوبة، كسور في الأضلاع، ثقوب في عظام الرأس والصدر، والمشاهدات أكدت أن بعض الجثامين بلا أطراف، بعضها بدا وكأنه سُحق تحت المجنزرات، وبعضها الآخر تُرك في العراء حتى تحلّل، في دلالة قاطعة على أن الموت لم يكن نهاية الألم.
شهادات طبية محلية تحدثت عن أجسادٍ تحمل آثار خنقٍ أو دهسٍ، وعن حالاتٍ وصلت دون وثائق، وبحالة تحللٍ متقدمة، ما صعّب عملية التعرف عليها.
هذه ليست حالات فردية، بل نمط يتكرّر مع كل دفعة جثامين تُعاد من مقابر الأرقام أو مراكز الاحتجاز الإسرائيلية، مثل سجن سديه تيمان الذي حُفظت فيه جثامين العشرات وفق ما تؤكده وزارة الصحة في غزة.
سلّم الاحتلال الجثامين وعاد دون اكتراث، لم يكتفِ بحرمان الضحايا من الحياة، بل جرّدهم أيضاً من هويتهم.
كثير من الجثامين عادت دون اسم، ودون رقم هوية، ودون وثيقة طبية تدون ما جرى مع الأسير، ما يجعل آلاف العائلات غارقة في وجع طويل الأمد، عالقة في حيرة يائسة، لا تعرف إن كان ابنها بين الأرقام أو بين الركام.
على الجانب الآخر من غمامة اليأس، يبدو أن انعدام الإمكانيات المخبرية ودمار المرافق الصحية دوامة أخرى تُصعب إجراء فحوصات DNA بشكل شامل، بينما تضيع فرصة التوثيق القانوني العاجل الذي يمكن أن يشكّل دليلاً جنائياً دولياً على جرائم حرب وانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان.
إسرائيل جعلت من الموتى ورقة سياسية ومخبراً لإخفاء الأدلة، محوّلة أجساد الضحايا إلى ملفات مؤجلة في انتظار عدالة قد لا تأتي سريعاً.
وصلت جثامين النساء كذلك، وأكّد الأطباء أن بعضهن مجهولات الهوية، وبعضهن ما زالت علامات التقييد والتعذيب محفورة على ما تبقى من بقاياهن، ووضع الكواشف على خصوصية النساء بها ليس فصلاً جندرياً من قبلي، بل لأن كرامة النساء تبقى حية، لا تموت مع الموت، وللدلالة على الانتهاك الجسيم للكرامة الإنسانية والتعذيب الذي طالهن، ضمن نظره عنصرية وفرط قوة أصبح سمة وحشية لصيقاً بالاحتلال، باستباحة وإباحة كل شيء في غزة، لتحكي وجوهن فصلاً جديداً من فصول الإبادة الصامتة التي تجاوزت القتل لتطال الجسد والكرامة والذاكرة..مؤكدة أن الاحتلال لم يكتفِ بقتل النساء في منازلهن أو خيامهن؛ بل سلبهن أيضاً حقّ الدفن الكريم، وحقّ أمهاتهنّ في توديعهن.
هذا ليس تفصيلاً عابراً في مشهد الحرب، بل جزء من سياسة ممنهجة لمحو الجسد النسوي الفلسطيني من السجل والذاكرة، لأن المرأة الفلسطينية، تاريخياً، لم تكن مجرد نتيجة لحرب أو ضحية لها؛ بل هي رمز للحياة والاستمرارية، الذي رتَب استهدافها، حية وميتة، كأحد معاني استهداف الهوية الوطنية والإنسانية معاً، فعودة جثمان المرأة مكبّل اليدين أو مشوّه الوجه، ليس فقط قسوة، بل إعلان انتصارٍ زائفٍ على رمزية المقاومة ذاتها.
ما نراه اليوم ليس مشهد موتٍ عادي، بل جريمة ضد الجسد الأنثوي باعتباره حاملاً للذاكرة الفلسطينية، فلم تكتفِ حرب الإبادة بتدمير البيوت والمرافق؛ بل سعت إلى طمس معنى قداسة المرأة الفلسطينية كباعثة للحياة وكرمز للأرض والخصب والقدرة على النهوض من وسط الموت.
اليوم، تُطلق المؤسسات الحقوقية والطبية في غزة نداءً عاجلاً لتشكيل فريق تحقيق دولي مستقل يشرف على استقبال الجثامين وفحصها وتوثيقها وإنشاء قاعدة بيانات وفق المعايير الجنائية العالمية، فالعدالة تبدأ من التوثيق، والإرادة فقط تمنع محو الأثر؛ لأن كل جثمان يُعَد وثيقة وشهادة على جريمة حرب، وكل جثمان يحمل
رقماً هو إنسانٌ تم تغييبه عن الحياة قسراًَ، ثم أُعيد بلا اسم، وكل جسد عائد وثيقة مهمة على نية الإبادة.
الجثامين التي عادت إلى غزة لم تُغلق الحكاية، بل فتحتها على أوسع أبوابها...لأنهم ليسوا أرقاماً في تقرير، وإن كان القاتل يظن أن احتجاز الموتى يمنع الحقيقة من الظهور، فإن الأجساد المكسّرة ذاتها هي الآن الوثيقة الحيّة التي تشهد على أقصى درجات الانتهاك، وتصرخ بما تبقّى من الصوت: أعيدوا لنا الكرامة، لأن الموت لم يُعِدها لنا، فلتُعِدها المساءلة والعدالة.