تاريخ النشر: 12 تشرين الأول 2025


آراء
ولماذا يرموننا في أحضان وجوه الخير؟
الكاتب: عامر بدران

في النزاعات الفردية التي تنشب، عادة، بين اثنين اختلفا على ملكية متر مربع من الأرض، أو على موقع الحجر الذي يؤشر على الحدود بين بستان الأول وحقل الثاني.
وفي النزاعات التي تنشب بين اثنين يملك أحدهما حماراً لم يربطه بشكل جيد، فتجاوز حدود زريبته الخاصة وراح يرعى في حديقة الثاني، ويخرّب له مزروعاته التي دفع في حراثتها وزرعها وريّها «دم قلبه».
وفي المشاكل العائلية التي تبدأ لأن ابن العائلة الفلانية نظر إلى ابنة عائلة أخرى نظرة غير مريحة، ثم تتطور إلى معركة بين عشيرتين وربما قريتين.
في كل هذه النزاعات والمشاكل يتم اللجوء إلى وسيط تحت مُسمى «ابن حلال» أو «وجوه الخير» أو «لجنة الإصلاح»، وذلك حسب تعقيد المشكلة وعدد الأفراد المنخرطين فيها، وكمية الخسائر التي لحقت بكل طرف من أطراف النزاع.
ابن الحلال هذا أو لجنة الإصلاح، تضع رؤيتها للحل بين الطرفين المتنازعين، ثم يتم تدوين هذه الرؤية بخط مقروء من الجميع، وبعد ذلك يتم «تبصيم» الطرفين واللجنة والشهود عليه، وفي النهاية تتم قراءة الاتفاق على الملأ، بمقدمة لطيفة وارتجالية على شاكلة «الحاضر يعلم الغايب».
قبل هذا الاتفاق المكتوب، يستطيع الطرف الأول، ولنفترض أن اسمه «أبو العبد» أن يستعرض، أمام أم العبد وعبد، شجاعته التي لا تضاهيها شجاعة في مرمغة كرامة الطرف الثاني، وهو «أبو صطيف» عادة، بالتراب.
ويستطيع أبو صطيف كذلك أن يتفاخر أمام أم صطيف وأمام حماته، بأن غريمه النذل هو من يستنجد، كل يوم، بلجان الإصلاح ووجوه الخير، وإلا لكان قضى عليه وعلى سلالة الأصاطفة وأنهاهم عن بكرة أبيهم.
لكن بعد تدوين الاتفاق يصمت الجميع أمام الكلمة المدوّنة.
حمار يوسف خرّب حديقة جواد، ولذلك فيوسف ملزم بدفع غرامة مقدارها مائة دينار، مع تعهد أن يربط حماره جيداً وإلا.
أبو صطيف ضرب أبا العبد وكسر له أنفه، لذلك فهو مُلزم بتكاليف المستشفى، والاعتذار علناً أمام وجوه الخير وأهل الحارة، وأما الغرامة فقد تبرع بها الطرف، مكسور الأنف، للبلدية لأنه لا يقبل التعويض، بشرط إنفاقها في أعمال الخير التي تراها مناسبة.
التأويلات القليلة التي تتبع الاتفاق، تتعلق عادة بنوايا البلدية وفكرتها عن أعمال الخير، وبكلمة «وإلا» التابعة لربط الحمار. لكن هذا التأويل لا يمكن أن يجعل المائة دينار خمسين، ولا يمكنه أن يغيّر من المبلغ الذي دفعه أبو صطيف للمستشفى حتى لو قام بتقسيطه على دفعات، ولا يمكنه أن يلغي الاعتذار الذي تم أمام الحضور.
الأمور واضحة والاتفاق بكل بنوده واضح، والحاضر إن أعلم الغائب، وهو عادة يفعل، فإن كل القرية تصبح على علم أن فلان مطلوب منه كذا، وفلان سيدفع كذا وسوف يفي بما تعهد به.
علينا الاعتراف، للنزاهة ولقطع الطريق على مزاودات أصحاب التجارب المختلفة، أن التدوين بحد ذاته لا يعني التطبيق النزيه والحرفي للاتفاق، وأن التملص أمر مفهوم وطبيعي لدى القوي، ولدى من يشعر بالظلم على حد سواء. لكن محاولات التملص لا تنفي علم الأطراف والشهود وبقية الحضور بما تم الاتفاق عليه من بنود.
في الأمور والاتفاقيات السياسية لا يختلف الأمر كثيراً، إذ يستطيع كل طرف من المتفاوضين أن يوجه لجمهوره، وهو هنا شعبه أساساً، ما يريد أو ما يرغب من خطاب عالي النبرة، أو متواضع، أو عقلاني، أو حتى مهزوم. فخلال عملية النزاع وما يتبعها من مفاوضات بوجود وجوه الخير، بإمكانك أن تقول ما تشاء، وأن تعد شعبك بما تستطيع أو بما تطمح في الوصول إليه، حتى لو كنت تدرك، في قرارة نفسك، كل الصعوبات التي قد تعترض طريقك وتقلل من سقف مطالبك، فلا أحد يحاسب على الطموح ولا على الأمل.
لكن هذا الخطاب والشعارات المرفوعة بوساطته، تنتهي فاعليتها حين تقوم بالتوقيع على اتفاق نهائي، إذ لا يحق لك ساعتها أن تستمر على نفس النبرة من الكلام وتقديم الوعود، وكأنك ما زلت تفاوض.
أما ما هو المطلوب منك، فهو التصرف بصدق تجاه من تعتقدهم قاعدتك الجماهيرية، أو مَن خوّلت نفسك بالتحدث باسمهم، حتى لو لم يخوّلوك.
أن تصارحهم بما وقّعت عليه، أن تنشره على الملأ، وأن يعرفوه منك ومن قنواتك الإعلامية، بوضوح وشفافية لا أن تتركهم عرضة للتخمينات.
لقد حدث هذا الإعلام للشعب في كافة الاتفاقيات السابقة، وفوراً بعد توقيعها.
حدث مع اتفاقية أوسلو التي تم نشر بنودها على الملأ، وتمت طباعتها وتوزيعها على الفصائل والقنوات الإعلامية.
لقد عرف بها الشعب من أفواه من وقّعوها، ولم ينتظر أن تمنّ عليه هذه الوسيلة الإعلامية أو تلك بتسريبات موثوقة تارة، وتكهنات مغرضة تارة أخرى.
وحدث مثيل ذلك في اتفاقية جنيف، رغم كل الضجة المثارة حولها، بل أكثر من ذلك.. فقد تمت طباعة الاتفاقية بملحقاتها، وتم توزيعها على المشاركين في فعالية التوقيع، ومباشرة على الصحافة وعلى ممثلي القوى والفصائل المؤيدة والرافضة. وهي كاتفاق أوسلو، ما زالت معلنة ومتاحة ويستطيع أي شخص مهتم الحصول عليها.
مفاوضات كامب ديفيد، ورغم عدم وصولها إلى اتفاق وتوقيع بين الأطراف، إلا أن الوفد ولجنته الإعلامية كانت تزود الجمهور بالكثير من المحطات المهمة، والمطالب في هذا الجانب، والرفض في ذاك.
مفاوضات طابا كذلك، بحيث لا يستطيع أي مهتم أن ينكر قدرته على الوصول إلى أي تفصيلة أو أي عقبة فيها.
بالنتيجة فإن كل التفاصيل كانت وما زالت متاحة لمن يريد الوصول إليها، وهي ليست محجوبة أو غامضة إلا لمن يريد أن يتّهم ويتصيّد.
لماذا إذاً لا يعرف أحد من هذا الشعب المسكين ما الذي توقع عليه حماس ووفدها المفاوض؟
لماذا ينتظر الصحافي الفلسطيني أن يقرأ التسريبات أو يسمعها على القنوات الإسرائيلية؟
لماذا لا يعرف ابن غزة ما هي الأماكن التي يستطيع العودة إليها إلا من أوامر الجيش الإسرائيلي أو تعليمات المنسق؟
لماذا لا يتنازل أحد من هذه «القيادة» لمرة واحدة ويتحدث مع شعبه بوضوح وصدق.
وإذا كان إخفاء النوايا أو الكذب بخصوصها يوضع تحت بند التقية، فماذا يُسمى الكذب فيما تم وانتهى الجدل بخصوصه.