تاريخ النشر: 12 تشرين الأول 2025


دفاتر الأيام
الكتابة من بيت النار وقلب الدرع والكتابة من خارجهما
الكاتب: عادل الأسطة

شغلتنا منذ بداية طوفان الأقصى قضية الكتابة من داخل غزة والكتابة من خارجها؛ شغلتنا وشغلت معنا كتاب غزة أنفسهم وخضنا في الموضوع كثيراً، وإن لم تخن الذاكرة فباستثناء قليلين من أبناء قطاع غزة، وهنا أخص الروائي عاطف أبو سيف الذي وجد نفسه في الطوفان داخل غزة ويسري الغول، صدم الطوفان أكثر الكتاب هناك فترة قاربت الأشهر الثلاثة الأولى، إذ نادراً ما نشطوا في الكتابة، لانشغالهم بتدبير أمورهم وتأمين عائلاتهم أيضاً، ولارتقاء عدد منهم منذ الأيام الأولى، وهنا أخص الشاعر سليم النفار الذي أصدر في حرب ٢٠١٤ كتابه «غزة ٢٠١٤: تأملات ويوميات شاعر في حال المدينة الرهينة»، وأشير إلى ما كتبته يسرا الخطيب في شهادتها «موت فاضح» والشاعر ناصر رباح في يومياته «أربعة أيام» وقد نشرت كتابة يسرا في كتاب «الكتابة خلف الخطوط» وكتابة ناصر في كتاب «استعادات مقلقة» والكتابان من إعداد عاطف أبو سيف.
تجيب يسرا صديقها الذي سألها إن كانت كتبت يومياتها عن الحرب قائلة:
«- لم أكتب حرفاً واحداً عن الحرب. أنا الآن أكتب موتي فقط».
وأما ناصر الذي يتصل به خالد الناصري يطلب منه أن يكتب شهادته عما يجري فيرد: «- أمجنون أنت يا رجل؟!! بل المجنون الذي سيطاوعك ويكتب».
ومنذ أصغيت إلى كلمة محمد ضيف صباح ٧ /١٠ / ٢٠٢٣ وجدتني أكتب، وكانت الكتابة الأولى سطراً واحداً «محمد ضيف: اسم العملية «طوفان الأقصى»»، ووجدتني في المساء أكتب منشوراً أنهيته بعبارة: «اللهم احم غزة وأهلها هذه الليلة»، ومنذ ذلك الحين بدأت أكتب يومياً منشوراً أو اثنين وأسبوعياً مقالاً للجريدة تحت عنوان «تداعيات حرب ٢٠٢٣» ولاحقاً تحت عنوان آخر «هوامش من وحي ما يجري في غزة» وببساطة صرت كاتب يوميات الحرب إلى جانب أسماء أخرى مثل الشاعر خالد جمعة، وأرجح أن كلينا كتب ما لم يكتبه سواه.
بعد خمسة وثمانين يوماً توقف عاطف أبو سيف عن كتابة اليوميات، فقد غادر قطاع غزة عائداً إلى مكتبه في وزارة الثقافة في رام الله، وتفرغ لكتابة الرواية فأصدر روايته عن الحرب «القبر رقم ٤٩» وتجول في المدن الأوروبية يحكي عما عاش وشاهد. عن تجربته في غزة تحت النار.
وأنا أتابع يوميات عاطف كنت أنظر في الفارق بين ما يكتبه وما أكتبه، وألاحظ اهتمامه بالتفاصيل، فيم أكتب بأسلوب مختلف أتكئ فيه على ربط ما يجري في غزة بما مر به الفلسطينيون منذ كتب الثائر عوض في ١٩٢٩ تقريباً قصيدته على جدران زنزانته «ظنيت النا ملوك تمشي وراها رجال».
ببساطة لم أكتب عن غزة وحسب، وإنما كتبت عن غزة في ضوء ما مر به الشعب الفلسطيني وبلغت ذروته في طوفان الأقصى، تسعفني ذاكرة أدبية ومكتبة بيتية أعود إلى كتبها لأقتبس منها، ولا أظن أن هذا يمكن أن ينجزه من بقي في القطاع، فأكثر الكتاب خسروا بيوتهم وخسروا بخسارتها مكتباتهم.
في الأشهر الأولى كتبت في الموضوع وشارك في الكتابة فيه كتاب من داخل غزة وكتاب من خارجها، واجتهدنا كلنا في الموضوع، ووصل الجدل بيننا ذروته فيما كتبته في مقال الأحد الماضي الذي تمحور حول قصائد كتبها شعراء من خارج قطاع غزة وقصائد كتبها المقيمون في غزة.
ربما هنا أعود إلى عنوان من عناوين رواية غسان كنفاني «أم سعد» عن «الذين هربوا والذين تقدموا» و»في قلب الدرع»، ويجدر أن أذكر برواية عبد الرحمن منيف «شرق المتوسط» والمشروع الذي اقترحه رجب لكتابة رواية عن عالم السجن، بل وربما يجدر أن أعود إلى رواية الكاتب الجزائري الطاهر وطار «اللاز».
في «اللاز» طالما توقف السجناء الفلسطينيون في ٧٠ القرن ٢٠ أمام المقطع الآتي وناقشوه ليبدوا وجهة نظرهم في الفرق بين رؤية الداخل ورؤية الخارج:
«خطان متوازيان، متعاكسا الاتجاه، يواصلان انطلاقهما في دائرة مغلقة، تدور على نفسها ذات الآن في اتجاهين؛ واحد من ناحية اليمين إلى الشمال وثان من الأسفل إلى الفوق، في حركة بطيئة هادئة، إلى درجة يصعب معها تمييز الدوران من الخارج. الخطان في شكل سهمين، والدائرة مشحونة بذرات صلبة التماسك».
تبدو الأمور أوضح في رواية منيف، فرجب، ومن ورائه منيف، يفكر في كتابة رواية عن السجن هي التي ينجزها المؤلف - أي شرق المتوسط -. كيف يصور السجين السجن من داخله وكيف يصوره أهل السجين الذين يزورونه أو له صلة بهم.
يقترح السجين رجب أن يكتب عن عالم السجن الذي يعيش فيه، وأن تكتب أخته وزوجها حامد وابنها عادل أيضاً، ويتمنى لو امتد العمر بأمه التي كانت تزوره وتعاني لتكتب هي أيضاً. ولقد أنجز منيف رواية تقوم على تعدد الأصوات؛ صوت الداخل يرويه رجب وصوت أنيسة أخته ترويه من الخارج، وضمت الرواية رسائل حامد وعادل، وهكذا قرأنا رواية عن عالم السجن من داخله ومن خارجه.
لماذا لم أعد إلى روايتي وطار ومنيف حين اشتعل الجدل؟!
كل شيء في أوانه يعسل.