نبدأ اليوم سلسلة معالجات جديدة، فعلى مدار عامين صار لدينا ما يكفي من المعطيات للكلام، بقدر كبير من اليقين، عن «الحرب التي غيّرت العالم». وفي سياق كهذا، فإن الأسئلة التي تحتل المتن هي: كيف غيّرت العالم؟ وما دلالات التغيير؟ وما نتائجه وتداعياته في الإقليم والعالم؟
طرحتُ في الأسابيع الأولى للحرب في سلسلة بعنوان «أسئلة الحرب» عدداً من الفرضيات، منها: أن للحرب حياة خاصة، وما قد يبدو كخلاصة واضحة في بداياتها قد لا يكون كذلك في خواتيمها، وأن ثمة نتائج لا ندركها، وتحوّلات لا نستطيع القبض على ما تنطوي عليه من دلالات، وقد صار في الإمكان، الآن، القبض عليها وتشخيصها. وعلاوة عليه، طرحتُ فرضية أن الحرب تتجاوز غزة، فهي حرب صعود القوّة الإقليمية الإسرائيلية، وجازفت آنذاك بالكلام عن ورطة إسرائيل في غزة، التي لن تنجو منها، حتى لو دمّرت غزة، وبالقول: إن مشروع الصعود الإقليمي محكوم بالفشل.
ومع امتياز الإطلال على الماضي القريب من شرفة الحاضر، سنحتاج للعودة إلى الفرضيات المعنية، خاصة بعدما توفرت معطيات جديدة للتدليل على صحتها أو ضلالها. ومع هذا في البال، ثمة ما يستدعي التذكير بأن حروب العشرية الثالثة لم تتوقف بعد، فنحن لا نعرف النتيجة النهائية على جبهة الحرب مع إيران، وكذلك على الجبهتين السورية واللبنانية.
وبقدر ما يتعلّق الأمر بخطة نتنياهو ـ كوشنر، فلا يبدو من السابق لأوانه القول: إن بعض بنودها من نوع: إطلاق الرهائن وتحرير السجناء، والانسحابات الجزئية، تقبل التحقيق. أما «السلام» والاستثمارات، وهيئة الإشراف الدولية، والتعمير، فيصدق عليها تشبيه كلام الليل الذي يمحوه النهار. ستنشأ وقائع ليست بكل هذا القدر من الوضوح، ولا في جعبتها كل هذا العدد من الوعود.
على أي حال، لا معنى للكلام عن «الحرب التي غيّرت العالم» دون الوقوف عند رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو. وهذا موضوع معالجة اليوم. فلن يتمكن أحد من التفكير في دوافع الحرب، وخياراتها وإكراهاتها، دون التوقف عند هذا الشخص، الذي ذكرتُ في «نقطة الضوء» بعد اندلاع الحرب بأربعة أيام، أنه اصطدم بالأرض، وأن نتائج ارتطامه بالأرض لن تتجلى قبل مرور وقت طويل. وما زلت عند هذا الرأي، مع ملاحظة أن ما وفّرت الحرب من معطيات على مدار عامين يُغني التفكير.
ومع هذا في البال، ثمة ما يبرر التحذير من طريق لا ينبغي السير فيه في الكلام عن نتنياهو والحرب. المقصود اختزال الحرب وتحوّلاتها، على مدار عامين، بدوافع نتنياهو الشخصية، ورهاناته الأيديولوجية، وضغوط شركائه في الائتلاف الحاكم. مصدر هذا التفسير فكرة مضللة مفادها أن ما حدث لم يكن ليحدث لولا وجود نتنياهو، وشركاء من فصيلة سموتريتش وبن غفير.
لا توجد في عالم الأفكار فكرة «بريئة». فمن يُرد إعفاء الدولة والمجتمع الإسرائيليَّين من المسؤولية، خاصة بعد ردة الفعل الهائلة في العالم، يُلقِ بها على عاتق نتنياهو وشركاه. والمُلاحظ أن الفكرة نفسها تخدم الإبراهيميين، وبعض عرب الحواضر، لأنها تمكنهم من الإيحاء بأن علاقاتهم «الاستثنائية» بترامب تُسهم في كبح جماح نتنياهو وحكومته. الصحيح أن الفصل تعسفي، وأن الحرب حرب الدولة والمجتمع، أيضاً.
يُوفّر هذا السياق إطاراً أوسع للتفكير في، والكلام عن، نتنياهو، الذي يستحيل استبعاده من كل تأريخ محتمل للحرب، ويستحيل استبعاده من تحوّلات طرأت على بنية الدولة والمجتمع الإسرائيليَّين منذ صعوده في حقل السياسة الإسرائيلية قبل ثلاثة عقود مضت. ثمة أكثر من مدخل للتفكير بطبيعة الحال. وما يعنيني منها أقلها تداولاً في النقاشات ذات الصلة بالحرب.
أعني أن نتنياهو أميركي بقدر ما يتعلّق الأمر بالثقافة، والسياسة، والذائقة العامة. لا يقتصر الأمر على حقيقة أنه عاش سنوات طويلة في الولايات المتحدة، وحصل على الجنسية الأميركية، التي تخلى عنها عندما صار رئيساً للوزراء، بل يتصل بعلاقة عائلية بدأت مع الجد ناثان ميلوكوفسكي، الذي زار أميركا للتبشير بالصهيونية، وجمع التبرعات، وأنشأ صلات بالجاليات اليهودية هناك. والأب، القريب من جابوتنسكي، الذي رحل بعائلته إلى أميركا، وأقام فيها، بعدما «حرمه» العماليون من فرصة العمل في الجامعات الإسرائيلية.
في وسعنا التدليل على هذا الأمر بشواهد مختلفة. ويكفي التذكير، هنا، بعبارة لم يكف إسحق رابين عن ترديدها كلما ذُكر اسم نتنياهو «هذا ليس منّا». أما في أميركا، فقد كان من باب الدعابة، والغيظ أحياناً، في أوساط أميركية مختلفة الكلام عن نتنياهو بوصفه «السيناتور من ولاية إسرائيل». المهم أن دلالة «الأميركي» ستتضح بشكل أفضل في السياق العام لتحليل «الحرب التي غيّرت العالم».
علاوة على هذا كله، «للأميركي» دلالة وثيقة الصلة بما أحدثت العلاقات الأميركية ـ الإسرائيلية من تحوّلات على بنية وثقافة الدولة والمجتمع الإسرائيليَّين من ناحية، وما أحدثت الأوساط، التي عاش فيها نتنياهو من تأثير دائم عليه، من ناحية ثانية. كان صعوده مستحيلاً في إسرائيل لولا الأمركة، والدفيئة الأيديولوجية للمحافظين الجدد.
سنتكلّم في معالجات لاحقة عن «أمركة» إسرائيل، وفي البال «ألفيس [بريسلي] في القدس: ما بعد الصهيونية وأمركة إسرائيل» (2003) لتوم سيغيف. وعن إسرائيل التي صنعها نتنياهو، معطوفاً على ظاهرة الأمركة، وتمثيلاً لها، وفي البال «إسرائيل نتنياهو: صعود أقصى اليمين» (2024) ليوتام كونفينو. ثمة الكثير مما ويجب أن يُقال عن الحرب التي غيّرت العالم. فاصل ونواصل.