
بقلم: كوبي ميخائيل
تميزت سنة 2025 بالتحول الجيو-إستراتيجي في منطقتنا في أعقاب عملية "شعب كالأسد"؛ هذه العملية كانت ممكنة بفضل سلسلة من الإنجازات الإسرائيلية اللافتة في مواجهة "حزب الله"، وهو ما أدى إلى سقوط نظام الأسد، وإلى تدمير القسم الأكبر من منظومات الجيش السوري لاحقاً. والنتيجة: أسّس الجيش الإسرائيلي تفوّقه الجوي في أجواء المنطقة، وفتح لنفسه ممراً في الطريق إلى إيران.
على صعيد جبهة غزة فإن المناورة البرية العميقة التي نفّذها الجيش، والتهديد الجوي لبقاء "حماس"، فضلاً عن الضربة الجوية في الدوحة في أيلول 2025، أمور كلها أسست البنية التحتية لخطة النقاط العشرين للرئيس دونالد ترامب واتفاق وقف إطلاق النار الذي بدأ في 10 تشرين الأول 2025، وحظيت الخطة أيضاً بدعم قرار مجلس الأمن الرقم 2803. وشكلت عودة جميع الأسرى الأحياء و27 جثماناً من أصل 28، وسيطرة إسرائيل على 53% من مساحة القطاع، إنجازات مهمة، غير أن المعركة لم تنتهِ بعد: فـ"حماس" لم تجرَّد من سلاحها، والقطاع لم يُنزَع سلاحه، وحتى الآن، لا توجد سلطة بديلة.
التحدي الأكبر
تخرق "حماس" وقف إطلاق النار بشكل متواصل، بينما يردّ الجيش، وهو مقيّد، وبضبطٍ للنفس، فيما يتعلق بالعمليات الاستباقية ضد مسارات تعاظُم قوة التنظيم "الإرهابي"، بردود قاسية وغير متناسبة، من أجل تكريس قواعد اشتباكٍ واضحة وفرض ثمنٍ باهظ على "حماس"، ويعود سبب الضغط الأميركي على إسرائيل وتقييدها أن الإدارة في البيت الأبيض لا تزال تبذل جهداً لتطبيق خطة الرئيس ترامب، وتعتقد أنه يمكن إقناع "حماس"، عبر تركيا وقطر، بالتخلي عن سلاحها.
إن أهم التحديات التي تواجه إسرائيل في سنة 2026 هي إعادة تعاظُم قوة "حماس" وترسيخ حكمها في قطاع غزة، إلى جانب جهود حزب الله من أجل إعادة بناء قدراته، بدعمٍ من إيران؛ كذلك تعمل الأخيرة بزخم كبير على إعادة ترميم وتطوير القدرات البالستية ومنظومات الطائرات المسيّرة والطائرات من دون طيار، في موازاة تعزيز جهودها السيبرانية وتنفيذ عمليات "إرهابية" ضد أهداف إسرائيلية ويهودية في الخارج. عملياً، لا تزال إسرائيل منخرطة في حرب ناشطة على خمس جبهات رئيسية: إيران، قطاع غزة، الضفة الغربية، لبنان، وجنوب سورية، ويبدو كأن مركزَي الثقل الأبرز هما في قطاع غزة ولبنان، وفي هاتين الساحتين، سيتوجب على إسرائيل تحقيق حسمٍ يُضعف إيران، ويتيح استعداداً أفضل لمواجهة مساعي تعاظُم قوتها.
إلى جانب هذه التحديات، وفي الدائرة الثانية، يبرز التحديان التركي والقطري؛ تركيا وقطر داعمتان لـ"حماس"، وتسعيان للقيام بدور مؤثر في قطاع غزة، بينما تطمح تركيا أيضاً إلى وجودٍ عسكري هناك؛ فالدولتان معاديتان لإسرائيل وتعملان ضدها على الساحة الدولية، في موازاة تقديم دعمٍ فعال لـ"حماس"، بما في ذلك التمويل واستضافة قادة التنظيم وناشطي جناحها العسكري على أراضيهما، الذي تتيح تركيا لناشطيه تنظيم عملياتٍ "إرهابية" ضد إسرائيل، ولا سيما في الضفة الغربية. وتسعى الدولتان لبسط النفوذ على قطاع غزة من أجل تعزيز مكانتهما كلاعبتين إقليميتين وعالميتين. وتتحول تركيا إلى تهديد، سواء بسبب طموحاتها الإقليمية وعدائها الكبير، أو بسبب وجودها في سورية وتوسيع نفوذها هناك، بما في ذلك المساعدة على إعادة بناء الجيش السوري وتسليحه، ودعم منظمات "إرهابية" سنّية في جنوب سورية.
الدعامة والكابح الأميركي
منذ تموز 2024، أدّت إنجازات إسرائيل إلى تغيير حقيقي في المنظومة الإقليمية ورسّخت مكانتها كقوة رائدة، كذلك حسّنت هذه الإنجازات الظروف لتوسيع اتفاقيات أبراهام وإحداث تغييرٍ عميق في البنية الإقليمية الجديدة، بدعم من الولايات المتحدة، وبقيادتها، لكن نقطة الضعف والعائق أمام هذا التحول هو قطاع غزة، فاحتمال التطبيق الناجح لخطة النقاط العشرين ليس مرتفعاً، ويتعين على إسرائيل العمل بما تسمح به الشرعية، ولا سيما الأميركية، لاستئناف المسار العسكري لتفكيك "حماس" ونزع سلاح القطاع، وهو ما يسمح بتوفير الشروط لتنفيذ الخطة. إن إمكانية تكريس واقعٍ يبقى فيه قطاع غزة مقسّماً على طول "الخط الأصفر"، مع بقاء "حماس" صاحبة سيادة فعلية في المنطقة الخاضعة لسيطرتها في شرق القطاع، هي إمكانية سيئة وخطِر على إسرائيل. وقد يتحول تقييد الولايات المتحدة لها إلى سابقة خطِرة أيضاً فيما يتعلق بـ "حزب الله" وإيران، ويضيّق هامش حركتها في سورية.
إن الانخراط العميق للولايات المتحدة في الساحات- قطاع غزة، لبنان، سورية، وإيران- إلى جانب تعميق العلاقات الاستراتيجية مع قطر والسعودية وتحالفات الدفاع معهما، يضع إسرائيل أمام صعوبة فيما يتعلق بحرية عملها في مواجهة التحديات على كل ساحة، وما يضيّق هامش المناورة الإسرائيلي في مواجهة الدولتين، أكثر فأكثر، قُرب الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، وأمير قطر، تميم بن حمد آل ثاني، من الرئيس ترامب، والتقدير العلني الذي يبديه لهما.
ومع ذلك، لا يجوز نسيان أن الولايات المتحدة لا تزال الدعامة الاستراتيجية الأهم لإسرائيل، لذلك فإن التحدي المركزي هو الحفاظ على مستوى التنسيق والتعاون مع الإدارة الأميركية، وضمان دعمٍ غير مشروط منها، إلى جانب حرية عمل عملياتية على جميع الساحات؛ هذا التوتّر يصعب حسمه في ظل المصالح الأميركية وإصرار ترامب على تشكيل بنية إقليمية جديدة، عبر توسيع اتفاقيات أبراهام، التي كان يرغب في أن تشمل أيضاً سورية ولبنان.
الاختبار في مواجهة خمس ساحات ناشطة
ستضع سنة 2026 إسرائيل أمام اختبارات غير سهلة؛ فخريطة التحديات معقدة ومتشعبة، وهناك ترابُط وتأثير متبادلان بين الساحات المتعددة، والضعف في ساحة واحدة سينعكس على الساحات الأُخرى حتماً، في حين أن الولايات المتحدة لديها فيها كلها علاقات ومصالح لا تتطابق بالضرورة مع المصالح الإسرائيلية. وستكون سنة 2026 سنة القيادة الإسرائيلية وقدرتها على الجمع بين فن القيادة العسكرية والقيادة الدبلوماسية، بما يتيح إدارة التوتر الأساسي بين مصلحة الحفاظ على العلاقات مع الولايات المتحدة والضرورة المتمثلة في صون المصالح الأمنية الحيوية لإسرائيل.
ويزداد تحدّي القيادة الإسرائيلية تعقيداً عندما يكون الحديث عن عامٍ انتخابي في ظل سياسة مسمومة، تعمل تحت ضغط قانون الإعفاء من التجنيد ومحاكمة نتنياهو، فضلاً عن أزمة ثقة حادة بين المستويَين السياسي والعسكري، وتدهوُر مكانة إسرائيل الدولية، ومجتمع مثخنٍ بالجراح يعيش صدمة منذ 7 تشرين الأول 2023، على الرغم من الصمود اللافت. علاوةً على ذلك، تتآكل ثقة الجمهور بالمؤسسات الحكومية. صحيح أن الاقتصاد الإسرائيلي أظهرَ صموداً ملحوظاً، وتشير المعطيات إلى نموٍ، لكن هذه المعطيات ربما تكون هشة في حال تدهور الواقع الأمني، ومثل هذا التدهور سيُلزم الجيش ومنظومة الاحتياط نطاقات نشاط واسعة، وسيعيد إلى الواجهة بقوة أزمة قانون الإعفاء من التجنيد التي ستغذي، بدورها، سياسة الاستقطاب والانقسام.
في ضوء هذا كله، ستكون سنة 2026 سنة تشابُك التحديات الأمنية والسياسية مع التحديات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الداخلية، والطريقة التي ستتصرف بها القيادة ستحدد ما إذا كان هذا العام هو العام الذي ستشق فيه إسرائيل طريقها لترسيخ مكانتها كقوة مندمجة في البنية الإقليمية الجديدة؛ الإمكانية قائمة، والفرصة كبيرة، والأمر في أيدينا، غير أن ضعف الإرادة قد يقضي على الإمكانات والفرص معاً.
عن "N12"