
كتبت بديعة زيدان:
عبر رحلة دائرية تبدأ من المطبخ وتنتهي فيه، تفكك مونودراما "ماجدة والمائدة" - من أداء الفنانة أميرة حبش وإعداد وإخراج الفنان جورج إبراهيم - أزمة "الأنثى/الفنانة" في واقعٍ يصر على قولبتها، مقدماً سردية مكثفة عن الأحلام التي تذوب تحت شمس الواقع الحارقة.
لا يسير العمل، الذي تجسّد على خشبة مسرح القصبة في رام الله، مساء أول من أمس، وفق سرد خطي تقليدي، بل يعتمد على تداعي الخواطر، فالحكاية الظاهرة بسيطة: أم تحاول إطعام طفلها وتجهيز نفسها لتجربة أداء مسرحي، لكن ما وراء الحكاية يكمن في التناقض الصارخ بين عالمي الواقع والحلم، ويتمثل الأول في "الشوربة الجاهزة" حيث السرعة، والاستهلاك، والواجبات المنزلية الخانقة، في حين يمثل الطفل "ياشيك" (الغائب الحاضر) سلسلة الحب التي تكبل خطواتها نحو ذاتها، أما الثاني فيعكسه عالم "جيني القراصنة"، فاختيار هذه الشخصية يحمل دلالة ثورية، فماجدة تحلم بأن تكون تلك المرأة القوية التي تدمر المدينة وتنتقم، لكن واقعها يجبرها على أن تكون المرأة التي تشتري الهدايا، فالحكاية هي صراع بين "من أنا" (الفنانة المتمردة) و"من يجب أن أكون" (الأم المضحية/ الممثلة المطيعة).
ورغم غياب الشعارات السياسية المباشرة، فإن العمل مشحون بالهم العام، فالإشارة إلى أن "الغزلان لا تأتي لأن الجو شوب" هي تعبير رمزي عن قسوة المناخ السياسي والاجتماعي في فلسطين، ما لا يسمح بنمو أساطير الفرح الغربية (بابا نويل)، وبالتالي علينا أن نصنع معجزاتنا بأنفسنا.
أما المُخرج في المسرحية فهو ليس مجرد شخصية فنية، بل رمز للسلطة الأبوية التي تريد تجريد المرأة من قوتها، وهو ما ترفضه ماجدة بصرخاتها المتعددة.
بنى الفنان جورج إبراهيم معجمه الرمزي بذكاء، حيث تحولت الأدوات العادية إلى مفاهيم فلسفية، فالمائدة المركز الثابت، هي المخبأ، وهي المنصة، وهي المذبح الذي تُقدم عليه القرابين، كما أنها رمز للثبات القسري وللبيت الذي لا فكاك منه، بينما يمثل القفص المساحة الفنية المشروطة، علاوة على رمزيات السترة الحمراء كجلد ثانٍ لماجدة، وهدية "بابا نويل" كرمز للتسوية، وغيرها الكثير.
حملت أميرة حبش العمل على كتفيها باقتدار، مقدمة أداءً يتسم بالمرونة النفسية والجسدية، حيث التلون الصوتي بسلاسة وبما يتواءم مع تكوين العمل، بحيث تتنقل من نبرة الأمومة الدافئة، إلى حدة الغضب الهستيري، وصولاً إلى السخرية السوداء، ثم الانطفاء التام في النهاية، علاوة على الحضور الجسدي، عبر ملء الفراغ المسرحي بحركتها، وكذلك تواصلها المباشر مع الجمهور.
ويُعتبر مشهد رفع غطاء المائدة في اللحظات الأخيرة من العمل، والكشف عن الفراغ التام تحتها (غياب الطفل "ياشيك")، ذروة الصدمة الدرامية في "ماجدة والمائدة"، وهو مفتاح تأويلي يقلب موازين الحكاية بأكملها، فقد يشير الفراغ إلى أن "ياشيك" لم يكن موجوداً تحت الطاولة طوال الوقت، وربما هو غير موجود أصلاً، وهذا الاحتمال يشي بأن الحوارات الطويلة، والمساومات حول الشوربة واللازانيا، كانت مجرد حيل نفسية خلقتها "ماجدة" لملء فراغ وحدتها القاتلة، حيث إنها كانت تتحدث مع طيف لتشعر بأن لحياتها معنى أو وظيفة عبر الأمومة.
الطفل المختبئ أيضاً قد يكون "ماجدة" الصغيرة أو طفولتها هي، بحيث تحاول حماية براءتها تحت الطاولة، وحين رفعت الغطاء، أدركت أن براءتها اختفت أو كبرت وتشوهت بفعل الواقع، لذا لم تجد أحداً.
وما يميز العمل أنه يبتعد عن تقديم المرأة كرمز مقدس، ويقدمها كإنسانة من لحم ودم، تخاف، وتفشل، وتكذب، وتحلم بأنانية مشروعة، وأن النص والأداء يتجاوزان المحلية.
"ماجدة والمائدة" ليس مجرد عمل فني، بل صرخة مكتومة في وجه العالم.. إنه أطروحة أدائية لمأساة المبدع الذي يطحنه الروتيني واليومي، فقد نجح فريق العمل في تحويل المائدة من قطعة خشبية صامتة إلى شاهد حي على اغتيال الأحلام، مقدمين عملاً يستحق الإشادة، حيث البطولة ليست في الانتصار، بل في القدرة على الاستمرار.