تاريخ النشر: 15 كانون الأول 2025

"فلسطيني على الطريق": إسماعيل الهباش يخيط جرح البلاد بخطواته

كتب يوسف الشايب:

في زمن تتقطع فيه أوصال الجغرافيا الفلسطينية، وتتحول فيه المسافة بين مدينتين جارتين إلى سفر شاق محفوف بالمخاطر، يأتي الفيلم الوثائقي "فلسطيني على الطريق" للمخرج إسماعيل الهباش، وعُرض ضمن مهرجان "كرامة سينما الإنسان" في العاصمة الأردنية عمّان، أول من أمس، ليقدم وثيقة بصرية وروحية فارقة، فهو ليس مجرد رصد لرحلة برية، بل هو استعادة تاريخية ومحاكاة رمزية لرحلة السيد المسيح من الناصرة إلى جنين، ولكن بنكهة الإبادة والمزيد من الحواجز والدم.
تتمحور فكرة الفيلم حول محاولة المخرج قطع الطريق بسيارته من "فلسطين 48" إلى "فلسطين 67"، في سعي لرأب الصدع بين شطري الوطن، وهنا يكشف الهباش كيف أن الأرض التي باركها الأنبياء قد دنسها الاحتلال بالجدار والمستوطنات، محولاً "الطريق" من شريان حياة إلى "درب آلام" طويل.
يطرح العمل ثيمات استحالة الحركة كمعضلة وجودية، ووحدة المصير والدم التي تربط غزة بالضفة والداخل، مؤكداً أن الهوية الفلسطينية عصية على التفتيت رغم تكنولوجيا المراقبة والترهيب.
يبرز الفيلم أن المسيح ليس مجرد شخصية تاريخية، بل هو كل فلسطيني يعبر حاجزاً أو يسقط شهيداً؛ فالفلسطيني هو "المسيح المصلوب" يومياً.. وهنا، لا يكتفي الهباش بدور المخرج، بل يتحول إلى "بطل تراجيدي" و"معادل موضوعي" للمسيح المعاصر. حضوره الجسدي بشحمه ولحمه يمنح الفيلم توتراً حقيقياً، فنحن نخشى على المخرج نفسه من الاعتقال أو القنص.
ينجو الفيلم بذكاء من فخ الشعاراتية، معتمداً على مبدأ "أرِني ولا تخبرني"، فالطريق هنا "بطل" وشخصية حية تتحدث عن التاريخ المطمور تحت الأسفلت. من خلال التركيز على الأصوات الطبيعية، وأنفاس المخرج، وتوتر يديه على المقود، ينقل الفيلم حالة "القلق" للمشاهد مباشرة دون الحاجة لخطابات رنانة. إنه أقرب إلى "السينما التأملية" التي تفضح بشاعة الاحتلال عبر الصمت والانتظار الثقيل على الحواجز.
حضور المخرج إسماعيل الهباش في فيلمه "فلسطيني على الطريق" ليس حضوراً تقليدياً لمخرج يوثق حدثاً خارجياً، بل عضوي وجوهري، فالفيلم لا يمكن أن يكون دونه، لأنه هو "الموضوع"، و"الأداة"، و"الرمز" في آن واحد.
ويشكل حضور زوجة المخرج الراحلة "سلام" وصراعها مع السرطان محوراً جوهرياً يحول الفيلم إلى مرثية إنسانية، بحيث يدمج الهباش ببراعة بين "الخاص" (الموت بالسرطان) و"العام" (الموت برصاص الاحتلال)، حيث يحمل "صليب الفقد" الشخصي كوقود لرحلته، ما يجعل من الوجع الفردي بوابة لفهم الوجع الجماعي.
يستعير الفيلم عنوانه من الكاتب الراحل سلمان ناطور، مؤكداً أن الفلسطيني كائن "على الطريق" بشكل دائم، يعيش حالة انتظار وعدم وصول. بصرياً، يمارس الفيلم ما يمكن تسميته "جماليات القلق"، حيث يوثق الصراع بين "الأخضر" (الطبيعة المقدسة) و"الرمادي" (الاحتلال المدنس). وعبر تقنية التصوير من داخل السيارة (تأطير النافذة)، يعزز الشعور بالانفصال و"اللاوصول".
يبدأ الفيلم بـ"الأنا" (إسماعيل الأرمل الحزين) وينتهي بـ"النحن" (الفلسطينيون الصامدون)، ليشكل سير الهباش من الناصرة إلى جنين فعل مقاومة يخيط جرح البلاد بخطواته، مؤكداً أن الفلسطيني، رغم صلبه على الحواجز، يظل صاحب الطريق وصاحب القيامة.