
كتبت بديعة زيدان:
في عرضه الأول على خشبة مسرح القصبة في رام الله، مساء أول من أمس، لم يقدم مسرح الحرية القادم من جنين مجرد مسرحية تقليدية، بل نصب محكمة شعبية ومختبراً سيكولوجياً حياً، عبر مسرحية "جوهرتي الثمينة"، المندرجة تحت إطار مسرح المضطهدين ومسرح المنبر، وهو عمل تجاوز كونه عرضاً فنياً ليصبح بروفة للواقع، حيث الجدار الرابع محطم بالكامل، والجمهور هو اللاعب الخفي والأهم في تحديد مصير الشخصيات.
ينطلق العمل من عنوانه المخادع "جوهرتي الثمينة"، التي توحي ظاهرياً، بالرومانسية والتقدير، لكن العرض يفككها بقسوة ليكشف دلالتها الباطنية المرعبة، والمرتبطة بفعل التشييء، ففي مشهد "فلاش باك"، نرى الزوج يتغزل بزوجته ليس كشريكة، بل كمقتنى باهظ الثمن، حيث كان يتحدث بلغة الأرقام (المهر، والبيت، والسيارة)، ويتعامل معها كاستثمار يجب حمايته من "عيون الناس" ووضعه في "الخزانة".. هذه الاستعارة تؤسس للفكرة المركزية، القائمة على العنف والقتل ليس كرد فعل لحظي غاضب، بل كنتيجة حتمية لعلاقة قائمة منذ يومها الأول على عقد تملك لا عقد شراكة، فالمالك يحق له إتلاف بضاعته إذا شعر أنها فسدت أو لم تعد تطيعه.
في المشهد الافتتاحي، يصدمنا العرض بتطبيع القتل، حيث يظهر الزوج يتدرب على استخدام المسدس ببرود أعصاب، مقارناً قتل شريكة حياته بموت "خروف في المسلخ" أو "غصة عظمة دجاجة".. هذا التناول العبثي مقصود؛ فهو يجرد جريمة قتل النساء من الهالة "الشرفية" الكبرى التي يسبغها عليها المجتمع، ويحيلها إلى حقيقتها المجردة: فعل تافه، وحشي، وقائم على جنون العظمة الذكوري الذي يعتقد صاحبه أنه يمتلك حق سلب الحياة بضغطة زناد، لمجرد "الشك" أو "الإحساس بالغيرة".
لعل العنصر الأبرز فنياً هو شخصية "الجوكر" (الميسّر) الذي يلعب دور الوسيط بين الخشبة والصالة.. بذكاء وخفة ظل، يكسر الجوكر الإيهام المسرحي، معترفاً بعجزه عن إكمال القصة، ليرمي الكرة في ملعب الجمهور، عبر إدارة الاشتباك، حيث لم يكتفِ بطرح الأسئلة، بل استخرج التناقضات الكامنة في إجابات الجمهور، علاوة على كشف الحقائق الصادمة، فعندما أعلن أن "الزوجة لم تخن"، وأنه كان مجرد وهم، وضع المؤيدين للقتل في مأزق أخلاقي، كاشفاً عن أن "الشرف" المزعوم غالباً ما يكون ستاراً لقتل النساء بناءً على الشكوك والهواجس.
التفاعل الحي مع الجمهور كشف عن الطبقات العميقة للوعي الجمعي الفلسطيني والعربي، فهناك من حاولوا تبرير العنف الاجتماعي بالهروب إلى السياق السياسي (الاحتلال والمقاومة)، بافتراض سيناريو "خيانة تحت التعذيب" ليبرر التسامح، وهذا الهروب يعكس صعوبة مواجهة الرجل الشرقي لمفهوم "الخيانة الجسدية" اجتماعياً، فيلجأ لـ"تسييس" القضية ليجد مخرجاً يحفظ "رجولته" و"وطنيته" معاً.
لكن عندما طرح الجوكر السؤال العكسي: "لو هي اكتشفت خيانته، هل يسمح لها المجتمع بقتله؟".. الصمت أو الضحك المتوتر كان الإجابة الأبلغ، فالمجتمع يمنح الرجل "مسدساً" وشرعية، ويمنح المرأة "صمتاً" ووصمة.
اعتمد العرض على "التقشف"" في الديكور (طاولة، كرسي، وخزانة)، لكن الخزانة لم تكن مجرد قطعة أثاث، بل هي "التابوت" الحي، و"الفاترينة" التي يخبئ فيها الرجل "جوهرته"، وهي السجن الذي تخرج منه المرأة لتواجه مصيرها، بينما تحولت أدوات التجميل في مشهد الاستعادة من أدوات زينة إلى أدوات طمس هوية، خاصة أن الزوج يريد إعادة رسم وجه زوجته ورائحتها لتناسب ذوقه، في إلغاء كامل لكيانها المستقل.
مسرحية "جوهرتي الثمينة" لم تقدم إجابات جاهزة، بل فعلت ما هو أهم، أي أقامت الحجة على المتفرج، عبر تحويل الجمهور إلى "مشارك فاعل"، قبل أن يثبت العرض أن وقف سلسلة الاضطهاد لا يتم على خشبة المسرح، بل في القوانين، وفي العرف الاجتماعي، وفي العقلية التي لا تزال ترى في المرأة "جوهرة" للصون والعرض، لا إنساناً له حق الحياة والخطأ والاختيار.
جدير بالذكر أن العمل من كتابة غسان نداف، وإخراج محمد عيد، وأداء كل من رائد خطاب، وجمال أبو الحمص، وفرح شتية.