تاريخ النشر: 12 تشرين الثاني 2024

"اللعب بالجنود" لطارق عسراوي.. حكايات الانتفاضة المُستمرة واللهو المُقاوم!

 


كتبت بديعة زيدان:

يعيدنا الكاتب والشاعر طارق عسراوي، في روايته القصيرة "اللعب بالجنود"، سبعة وثلاثين عاماً، عبر آلة زمن سردية، جعلت من انتفاضة الحجارة محور حدث "النوفيلا" الصادرة حديثاً عن منشورات التكوين في الكويت، وبطبعة فلسطينية عن دار طباق للنشر والتوزيع في رام الله، في حين كانت جنين ومحيطها جغرافيا الأحداث، بالدرجة الأولى، وكأنها نوستالجيا إلى زمن كانت فيه روح المقاومة أكثر نقاءً، اتكاءً على المقولات التي لطالما تكرّر أن الحروب والمعارك المسلحة "ملعب الاحتلال" و"شغلته" التي يجيدها، بينما المقاومة الشعبية "مساحة الفلسطينيين"، و"شغلتهم"، حيث يُبدعون.
"اللعب بالجنود" فعل استذكار ليوميّات صاحبها أو المحيطين به أو من نقلها عنهم حول ما يُعرف اصطلاحاً في فلسطين بتوصيف "الانتفاضة الأولى"، واندلعت في العام 1987، وإن لم تكن الأولى إذا ما أخذنا بعين الاعتبار الانتفاضات المتعددة قبلها، منذ مطلع القرن العشرين، وحتى احتلال العام 1948، وما قبله وبعده، كفعل متواصل.
ولم تغب عن "النوفيلا" التي جاءت لغتها مُتسقة مع سياقاتها السردية، يوميّات الحارات وأهلها، وقتذاك، وتلك الروح التضامنية، التي بتنا نفتقدها، ولو جزئياً، أو تناسل الأرواح من الكبار إلى الشباب، ومن هؤلاء إلى الأطفال، الذين تأثروا بالمقاومة والمقاومين، وهالاتهم الكبيرة، بحيث باتوا نجومهم الذين يسعون لمحاكاة مقاومتهم للاحتلال، بما حملته تجاربهم في "اللعب بالجنود" من جرأة وشقاوة وبطولة، وخوف أيضاً، فعلى الرغم من صغر سنّهم، إلا أنهم يسعون جاهدين لتشكيل كتيبة وارثي المقاومة وحب الوطن، عبر السير على درب من سبقوهم من شهداء وأسرى وناجين.
ونجح عسراوي في التغلغل إلى دواخلنا، باستعادة عادات تلك الفترة المظلومة سرداً، والتي كدنا ننساها في خضم صخب الحياة ولا معقولية الإبادة، نحن أطفال انتفاضة الحجارة أو يافعوها، ومن بينها، مثلاً، أن الآباء لم يكونوا ليقبلوا "وضع الهوائي الخاص بالقناة التي لا تتحدث بغير العبرية، إمعاناً منهم في المحافظة، وتصديّاً لأفلام منتصف الليل، بما تنضوي عليه من مشاهد مخلّة بالعفاف"!
الرواية القصيرة والمكثفة في آن، اتكأت على حكاية مجموعة من الفتيان في الرابعة عشرة من أعمارهم، أو لنقُل الأطفال، راصدة علاقاتهم مع عائلاتهم، وأهل حاراتهم، ليس بعيداً عن كشف شيء من شقاوتهم، وضحكهم، وحزنهم، ومؤامراتهم، وأسرارهم، في فعل استعادة لذكريات جيل بات أربعينياً أو خمسينيّاً، والعودة بهم وبنا إلى تلك الفترة الملتهبة، ما بين حجارة و"لعب بالجنود" وما بين أصابع القتلة على زناد الرشّاشات والبنادق.
ويَبرز في "النوفيلا" كل من "زياد" و"تميم" اللذين يقررا "اللعب بالجنود" من باب التسلية، وكرد فعل على جرائمهم تجاه الكبار في حارتهم بمدينة جنين، حيث لم تكن ثمة بنايات، فيما غابت ثقافة تأجير المنازل عن تلك الجغرافيا، باستثناء ما حدث مع "ابتهال" التي لا يُعرف إن كانت مطلقة أم أرملة، أم غير ذلك.
"في ذلك اليوم، اتفق زياد وتميم في طريق عودتهما من المدرسة على أن يضعا كيساً به جهاز راديو تالف في طريق الدوريّات، ويمدّا منه سلكاً إلى جانب الشارع، الأمر الذي سيؤدي، بحكم التجربة والخبرة، إلى إرباك الجنود وإثارة هلعهم، فيغلقون الحارة لبعض الوقت، ويُحضِرون جهازاً آليّاً يُتحكم به عن بعد لنزع الكيس وتفكيكه باعتباره جسماً مشبوهاً"، و"هيك بنلعب فيهم".. "في تلك الحارة يلعب الأولاد ألعاباً جماعية كثيرة، ككرة القدم، والطابة، وسبع حجار، إلا أن لعبتهم الأثيرة دائماً هي اللعب بجنود الاحتلال".
في حدث غير مُتوقع يكاد يُكتشف أمرهم من يافع آخر يدعى "أيمن".. يتشكك في أمرهما، لكنهما، وبفطنة الصغار الذين يكبرون سريعاً، يخلّصان نفسَيهما من أي اتهامات مُتوقعة، وباتت عُرضة للتعميم، بالتذرع، ولو كذباً، بأنهما يتلصّصا على "ابتهال"، لكونها كانت "تبدّل ملابسها دون إغلاق النافذة"!
تقتحم بعض الشخصيات السردية التي قد تبدو ثانوية، وهي ليست بذلك، فهذا الاقتحام لم يكن إقحاماً، كحال "والد زياد"، أو ضابط مخابرات الاحتلال المُكنى بـ"أسد"، و"المفيد" رئيس البلدية، و"جميل" ابنه، والذي يحذر الأسير السابق ابنه زياد من مرافقته، لدرجة ربطِه في "درابزين" الدرج، بعد أن شدّد عليه بأن "ما تمشي مع جميل يابا، هذا ابن المفيد، أبوه رئيس البلدية، كلب من كلاب أسد، أُوعك تروح ع بيتهم.. ما تتقاتل معه، وما تحكيله لا منيح ولا عاطل".
وفي كل جمعة كان كلّ من زياد وتميم، وفي إطار "اللعب بالجنود"، يسيران "بخفة بين القبور" يجهزّان نعوش الشهداء ويزيّناها بسعف النخيل مرتديَين سراويل الليل الحالكة، التي كانت بمثابة طاقية إخفاء لفعل مقاومة آخر، أي كتابة شعارات المقاومة على سور المقبرة قبلها، كأن "لا تمت قبل أن تكون ندّاً"، العبارة الشهيرة للمناضل والروائي الشهيد غسان كنفاني.
ومع الوقت يتكشّف فعل العمالة والجوسسة لرئيس البلدية، خاصة حين قامت بلديته بتقطيع أشجار الكينا من مدخل المدينة بذريعة جذبها كثيراً من الطيور التي تضرب نظافة المدينة في مقتل، فينظم طلاب المدارس مسيرة احتجاجية في مواجهة هذا الإجراء، قبل أن يشاركهم السكّان حراكهم هذا بعد معرفتهم أن الحاكم العسكري الإسرائيلي هو من أمر بقطع الأشجار لدواعٍ أمنية، فيُفشلون استكمال المخطط، وتنجو أشجار كينا "مقهى النباتات" من قرار الإعدام، في حين تكفل كل من زياد وتميم بإلقاء الحجارة على الجنود من علوّ، لتندلع في اليوم التالي حرب بالحجارة و"المولوتوف" بين الاثنين ووالد تميم من جهة، ورئيس البلدية "الجاسوس"، الذي تُستهدف سيّارته بزجاجتين حارقتين لم تصلاها أو تمسّا "المفيد" بسوء، هو الذي يخجل ابنه من علاقة بـ"الكابتن أسد" في حين تهجره زوجته.
ومع مواصلة السرد، تتحول كذبة التلصّص على "ابتهال" إلى واقع مُفترض، وتتكشف حقيقة زوجها المناضل المُطارد، وهو السر الذي حفظه اليافعان، ووالداهما من بعدهما.. "برّر زياد لوالده كل ما فعله، ودّ لو يحتضنه، ويخبره أن بإمكانه الاعتماد عليه، انتشى فخوراً لأن أباه هو من يقف خلف السرّ الذي أقسم وتميم على حفظه حتى النهاية".
ويصل بنا عسراوي إلى الاجتياح، الذي بات هذه الأيام اجتياحات يوميّة أو شبه يوميّة، فاستشهد من استشهد، وأعدم برصاص الاحتلال من أعدم، واستهدف من استهدف، وغادر من غادر البلاد، وعاد من عاد إليها، مؤكداً أن هذا "اللعب بالجنود" كان وسيبقى فعل مقاومة بامتياز، وإن لم يكن يتبّدى ذلك عند ممارسته وقتها.
"اللعب بالجنود" ليس فعلاً سردياً لحفظ الذاكرات فحسب، أو استعادة الكاتب لفعل مارسه أو خبره كالكثير من أبناء جيلنا، نحن من كنّا في عمر يلامس أو يكاد الرابعة عشرة التي كان عليها كل من تميم وزياد، بل للتحسّر على مآلاتنا في فلسطين، هذه الأيام.
ومع ذلك لا يزال "اللعب بالجنود" مُنتجاً لم تنتهِ صلاحيّته في فلسطين عامة، وفي شمال الضفة خاصة، وتحديداً في جنين ومخيّمها، وفي طولكرم ومخيّمَيها، وغيرها، وهي لعبة مقاومة قد تفضي إلى استشهاد أو نجاة مؤقتة، ورثها جيل كل انتفاضة عمّن سبقهم من شهداء أو أسرى أو جرحى أو فاقدي اللياقة النفسية والجسدية، تحت وطأة ضغوطات الحياة المتراكمة، فلا يزال ثمة من ينصبون الكمائن الطفولية لجنود الاحتلال المدججين بشهوة القتل، ولا يزال المقاومون المُطاردون يتلثمون عند زياراتهم لزوجاتهم، ولم يغب فعل التواطؤ الضمني بحفظ ذاك السر، والمتفق عليه منذ الأزل في مواجهة الاحتلال، كما كان يفعل، وربّما لا يزالون أطفال حارات وأزقة المخيم كدلالة مكانيّة لحارات وأزقة أخرى في كامل جغرافية فلسطين، فثمة "أسرار تبقى أسراراً، حتى لو عرف بها أكثر من اثنين، أو ثلاثة، أو عشرة، أو ألف".