تاريخ النشر: 27 أيلول 2024

"ما بعد النهاية".. عن بيروت العالقة بين ماضٍ متوحّش ومُستقبل مُصادر!


كتب يوسف الشايب:

 

في أعقاب وفاة والده، يَخرج نديم مشلاوي بفيلم وثائقي مختلف يشبه المذكرات، يحمل اسم "ما بعد النهاية"، يمزج فيه قصته مع حكايات بيروت "المسكونة بالخسارات"، وقد عُرض الفيلم في المسرح البلدي بدار بلدية رام الله، ضمن فعاليات مهرجان أيام فلسطين السينمائية الدولي بدورته العاشرة، بالتزامن مع العدوان الأخير المتواصل على لبنان.
يتعاطى مشلاوي مع المدينة بدقة وعبر إثارة النظر في ما وراء الصورة، فتظهر بيروت مدينة منكوبة، رغم ما تظهره صورتها على الشاشة من إيهام باعتبارها تجربة حضرية، فالمدينة التي تمر باستمرار بدورات من الدمار وإعادة الإعمار ما يتركها مراراً وتكراراً مصابة بالكدمات، ويجعلها جسداً مشوهاً، بحيث يتم استبدال أنقاض الماضي القريب بالتدفق القادم من الحداثة، تظهر معلقة بين الماضي المتوحش والمستقبل الغامض، والحاضر الهش بشكل متصاعد.
ويطرح مشلاوي أفكاره في فيلمه التجريبي والتجريدي في آن، من خلال تحليل المدينة من وجهات نظر عديدة، ثقافية ومعمارية وتاريخية واجتماعية وإنسانية، بحيث يستكشف ونستكشف معه المعرفة والتاريخ الذي يمكن أن تحمله الأماكن القديمة في العاصمة، وكذلك ما يحدث عندما يتم محوها.
يستكشف الفيلم تاريخ بيروت الحديث من خلال مبانيها، ويعتمد على مقابلات متفرقة على مدار سنوات مع أربعة ممّن استثمروا في النسيج الحضري للمدينة، وبينهم مشلاوي نفسه - الذي يشكل أرشيف عائلته وعلاقته العاطفية ببيروت واحداً من متكآت الفيلم المحورية - إلى جانب المهندس المعماري برنارد خوري، المسؤول عن العديد من الهياكل الأكثر ابتكاراً في بيروت، والفنان متعدد التخصصات زياد عنتر المنهمك منذ فترة طويلة بتصوير المباني المهجورة في بيروت، والمهندس المعماري جورج عربيد، أحد مؤسسي المركز العربي للعمارة في جمعية الحفاظ على التراث المبني العربي الحديث ونشره.
في "ما بعد النهاية"، يصور خوري وعنتر وعربيد بالكلمات، مدينة تطورت بشكل أو بآخر رغم التمزقات التي حدثت خلال الحرب الأهلية فيها (1975 إلى العام 1990)، وإعادة الإعمار بعد الحرب، "التي دمرت النسيج الحضري أكثر بكثير مما دمرته الحرب نفسها"، والطفرة العقارية بعد حرب العام 2006 التي جعلت من المجدي اقتصادياً للمطورين هدم المباني التي نجت من فترة إعادة الإعمار.
يتناول الفيلم أيضاً الاختلالات التي ميّزت لبنان ما بعد الحرب، وقبل موجات الأزمات التي بدأت تجتاح البلاد في العام 2019 ومنذ الثامن من أكتوبر 2023، معتمداً على تسلسل زمني وموضوعي من ناحية، وعلى مقابلاته تقطعت على مدار قرابة الأعوام الثمانية، منذ مطلع العام 2013 إلى نهايات العام 2020. في فيلم يظهر كرواية، حيث قسّمه صاحبه إلى أربعة فصول وخاتمة تعلّق على انفجار ميناء بيروت في العام 2020، وكيف يبدو البيروتيون "عالقين في حاضر لا نهاية له، وبين ماضٍ شديد القسوة لم ولن يموت، ومستقبل تم إلغاؤه".
وفي هذه الفصول نرى بعض أعراض بيروت، المدينة التي باتت بيئتها المعمارية منذ الاستقلال خاضعة بشكل متزايد لمتطلبات السوق، بحيث يشببها خوري بغرفة مليئة بالناس الذين يديرون ظهورهم لبعضهم البعض، في حين يوضح عنتر التناقضات بين ما هو مثبّت في الخرائط العقارية للمدينة وما هو موجود بالفعل على الأرض، بينما يتأمل عربيد موجات السياح الذين جاؤوا إلى لبنان بعد توقف الأعمال العدائية للحرب الأهلية في العام 1990.
وينقلنا مشلاوي مع لقطات لبيروت خلال أمطار الشتاء، إلى حيث نوافير المياه التي تتدفق من المجاري جرّاء المنخفض الجويّ الماطر، وإلى حيث الشواهد في مقبرة مهملة حد الانتقال إلى شارع مجاور، في فيلم مُغاير، لكنه عميق وحميمي رغم غرائبيته الشكلانية، فكان "ما بعد النهاية" وثائقياً ذاتيّاً، فعلى الرغم من كل ما يمكن أن يدلّل على عكس ذلك، يشكّل الفيلم نظرة عاطفية وشخصية عابرة للأزمنة، وإن علقت في بيروت.