
كتب يوسف الشايب:
يعدّ الفنان التشكيلي سليمان منصور واحداً من روّاد الفن البصري الفلسطيني المُعاصر، وصانعاً أساسيّاً من بين عدد قليل من الفنّانين لحكايات بصرية خالدة، هو الذي عمل على تطوير نفسه وأدواته، وكان له حضوره المُقاوم ليس عبر اعتقاله فحسب، أو رئاسته لرابطة الفنانين التشكيليّين الفلسطينيّين قبل عقود، أو عبر جماعة "التجريب والإبداع"، والاتجاه نحو الطين كرد فعل في خضم انتفاضة الحجارة على جرائم الاحتلال بالعودة إلى الأرض، بل عبر مواصلته مشوار الإبداع انتصاراً لهذه الأرض ومن وما عليها، ولقضيتها، فنيّاً.
منصور، وفي إطار سلسلة حواريّات "تأريخ الفن"، التي تنظمها بلدية رام الله في مكتبة رام الله العامة، ويديرها الشاعر ووزير الثقافة الأسبق د. إيهاب بسيسو، لفت، قبل أيام، إلى أن فنّه الذي ارتبط بالأرض جاء نتيجة طفولته التي عاشها في بيرزيت، التي كانت قرية جديدة قرب رام الله، حيث الينابيع والأرض الخضراء الأشبه بجنّة، مشيراً إلى أن ذاكرته مع تلك الجغرافيا وساكنيها هي من كوّنته فنيّاً بالأساس، مستحضراً حكاياته مع جدته التي كانت تطوّع الطين في يوميّاتها كجل الفلسطينيين في الريف، فمنه صنعوا "الطابون" و"الخوابي" بل وحتى "بيوت النحل" التي كانت تصنعها جدته، في حين كانت منازل الكثير من الفلسطينيين مصنوعة من الطين، مؤكداً: حين اتجهت لاستخدام مواد من البيئة الفلسطينية في أعمالي الفنيّة، خرجت تلك الذاكرة من قمقمها، ووجهتني نحو الطين مادة لأعمالي.
وأضاف: في سبعينيات القرن الماضي كنّا نبحث في لوحاتنا عن رموز تعكس الهوية الفلسطينية، وكانت مصادري متعددة، من بينها رموز تعود إلى الحقبة الكنعانية، وما تلتها، وبينها الفنون الإسلامية أيضاً.. أنا وأبناء جيلي من الفنانين توجهنا نحو التراث الغني، الذي كان ولا يزال الملهم للكثير من الفنانين بصرياً، فالهوية ليست فكرة مجردة بالنسبة لي، والتعبير البصري عنها كان يتطلب التوجه نحو مصادر متعددة، ومن بينها تمثّل المشهد الطبيعي الفلسطيني الذي هو لوحة فنية صنعها أجدادنا دون أن يدرسوا الفن، فكانوا فنّانين بالفطرة.
وكشف منصور أن مدرسته الداخلية في بيت جالا، وإن وصفها بـ"السجن"، ساهمت في اتساع مفهوم فلسطين بالنسبة له، والتي كان يخالها بيرزيت وبعض المناطق التي زارها طفلاً ليست إلا كرام الله والقدس، فالرحلات التي كانت تنظمها المدرسة جعلت فلسطين أكبر بالنسبة له، بحيث باتت خارطتها داخله تضم جغرافيات جديدة كنابلس وأريحا وغيرها الكثير.
في "بتسلئيل"
وحول دراسته في كلية الفنون "بتسلئيل"، التي تأسست في فلسطين العام 1906، وكان من أوائل الفلسطينيين الذين يدرسون فيها، في سبعينيات القرن الماضي، كشف منصور: هذه الكلية من أوائل كليّات الفنون في الشرق الأوسط، وهذا يوضح كم اهتمت الحركة الصهيونية بالفنون منذ زمن مبكر لتمجيد ما يصفونه بالهوية الإسرائيلية والتعبير عنها.. في الحقيقة لم يكن انضمامي إليها بقرار منّي، فبعد أن أنهيت دراستي المدرسية تقدمت بطلب لمنحة فنون للاتحاد اللوثري، وكان قانونهم أن يرسلوا المقبولين، وكنت أحدهم إلى الكلية الأقرب إليه جغرافياً، وكان من المفترض أن أدرس الفنون في بيروت، لكن حدثت حرب العام 1967، فوجهوني إلى "بتسلئيل"، حيث قدّمت امتحاناً وقبلوني، ولا أعتقد أن هذا القبول مردّه تميّز فائق أو إبداع نادر، بقدر رغبة القائمين عليها لاستثمار وجودي في تبييض صورتهم، بأن لدينا طالباً فلسطينياً في الكلية.
وتابع: السنة الأولى مرّت دون أي مشاكل تذكر، وفي السنة الثانية احترقت مكتبة الأكاديمية، وبدأت أشعر أن الجميع يوجه أصابع الاتهام لي كفلسطيني في كلية فنون إسرائيلية، وحين حضرت الشرطة الإسرائيلية للتحقيق، كنت المتهم الأول دون الآخرين بنظرهم أيضاً، وهذا أحدث شرخاً عميقاً تجاه الكلية داخلي، خاصة أن الحقيقة أظهرت أن تماساً كهربائياً كان وراء ذلك.. كان من المفترض أن أتوجه كل سنة إلى الاتحاد اللوثري لتسجيل إنهائي لدراسة العام الدراسي، لكني لم أفعل، وحين أنهيت دراسة ثلاثة أعوام أبلغوني بأن عليّ أن أدفع رسوم ثلاث سنوات دراسية لكوني لم أقم بالتسجيل لديهم كل عام، ولكوني لم أكن أملك النقود لذلك، وبسبب الشرخ الذي كان لا يزال يسكنني تجاه الكلية لعنصرية القائمين عليها، والكثير من طلابها، قررت ألا أكمل الدراسة فيها، خاصة أنني لم أكن أتوقع أن أحترف الفن.
من جغرافيا إلى هوية
وتحدث منصور عن تأثير المد القومي العروبي، والزعيم المصري الراحل جمال عبد الناصر عليه، فمع الوقت بدأ يتشكل وعيه في هذا الجانب، وتحوّلت فلسطين لديه "من جغرافيا إلى هوية"، مُعترفاً: لم أكتشف الهوية الفلسطينية بمفردي، بل من خلال عملي مدرساً للفنون في معهد الطيرة بمدينة رام الله، حيث تعرفت إلى نبيل عناني وفيرا تماري وغيرهما، وهو ما راكم إلى ما عشته وعايشته في المدرسة الداخلية ببيت جالا، حيث لا يمكن العيش دون عصابة"، وهو ما ساعدني في العمل بشكل جماعي، وأكون من بين قادة الحركة الفنيّة الفلسطينية في سبعينيات القرن الماضي، وتجربتي مع نبيل وفيرا ومن ثم تيسير بركات، وغيرهم، قد تكون تجربة نادرة عربيّاً.
"جمل المحامل"
وكشف منصور في الحوارية الشيّقة والكاشفة أنه رسم النسخة الأولى من "جمل المحامل" محاكاة لمشاهدتي أحد العتّالين يحمل خزانة وأشياء أخرى على ظهره، ففكرتُ أن هذا الحمل الكبير قد يعكس طبيعة ما يعيشه الفلسطيني، لذا جعلته يحمل القدس، مضيفاً: حين انتهيت من "جمل المحامل" شعرتُ بأنني أنهيت عملاً جميلاً، لكني لم أكن أتخيّل أنه سيتحول إلى عمل أيقوني، ويكتسب كل هذه الأهمية، ولا يزال.
وأشار الفنان القدير إلى أن النسخة الأصلية الأولى، قام بتسليمها إلى مكتب طباعة ونشر كان يتبع للحزب الشيوعي الإسرائيلي، في شارع صلاح الدين بالقدس، لطباعتها، وكان يزوره كبار أدباء فلسطين ومبدعيها كإيميل توما، وإيميل حبيبي، وغيرهما، ما أضفى عليه طابع الثقة، واختفت اللوحة، وبات كل فرد يدّعي أنها ليست بحوزته، "لكن طباعتها أفادتني كثيراً، كما أفادت الفن الفلسطيني، بحيث باتت أول لوحة في الأرض المحتلة تتحول إلى ملصق، وربما رمز يعلّق في الكثير من المنازل في كافة أنحاء فلسطين، وخارجها".
أما النسخة الثانية، فاشتراها سفير ليبيا في لندن خلال معرض شاركت فيه هناك لصالح الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي، "وطلب أن أوقع له إهداءً على اللوحة، لكني رفضت، وتوصلنا إلى تسوية بأن يكون الإهداء على اللوحة من الخلف.. ولا أعرف أين هي اللوحة الآن".
ورسم منصور نسخة ثالثة معدلة، أخذ فيها بملاحظات "عتّالي" القدس على شكل الحبل، ومطالبات المسيحيين له، باعتباره "فناناً فلسطينياً مسيحياً" بإضافة كنيسة أو رمز ديني مسيحي للوحة، وهو ما كان، وبيعت قبل سنوات قليلة في مزاد عالمي بمبلغ كبير، لافتاً إلى أن القدس أكبر من كل رمزيّاتها، لكن تبقى قبة الصخرة الرمز الأبرز، حتى فنيّاً، وهي العنوان الواضح والصريح لها.
وعبّر منصور عن غيرته من اللوحة التي فاقت شهرتها شهرته، حتى بات يعرف بأنه صاحب "جمل المحامل" أو صاحب اللوحة التي يحمل فيها العتّال المسن القدس على ظهره، كاشفاً أنها ليست اللوحة الوحيدة التي تسرق أو تضيع منه، فهناك عدّة لوحات فقدها بعد تسليمها لممثلين عن أحزاب سياسية وجهات عدّة.
العشاء الأخير
وعن لوحة "العشاء الأخير" التي رسمها منصور بروح فلسطينية، ردّ على سؤال لبسيسو بالقول: مع تقديري لأهمية ليوناردو دافنشي عالمياً، لكني أرى تسطيحاً حد السخافة في لوحته "العشاء الأخير"، فلا مائدة طعام حقيقية في اللوحة التي يصطف فيها جميعهم وكأنهم ينتظرون من يلتقط لهم صورة، ثم إن الطعام نفسه يسلخ المسيح عن بيئته الطبيعية، لذا رسمتهم، بعد نقاش مع د. متري الراهب، بالزي الريفي الفلسطيني، وفي مساحة بحجارة فلسطينية عتيقة (عليّة)، وأسفلهم البساط التقليدي، والخلفية هي شجر الزيتون، أما الطعام هو "الفخارة"، فباتت اللوحة امتداداً للهوية الفلسطينية، مشيراً إلى أنه رسم المسيح ليس أشقر بملامح أوروبية، أو آسيوية، أو أفريقية، أو لاتينية كما رسمها آخرون، بل بملامح فلسطينية كما كان بالفعل، وبلباس فلسطيني، حتى أن بعض العرب المسيحيين الإنجيليين في الخارج، عاتبوني على هذا الرسم، باعتبار أنه المسيح كان يهودياً، فكان ردّي أنه يهودي فلسطيني، كما أنني مسيحي فلسطيني عربي، فتعاطيت سواء في رسم المسيح أو في العشاء الأخير مع الأمر تبعاً للهوية القومية الوطنية لا الدينية.
رسّام كاريكاتير
وعن تجربته في رسم الكاريكاتير، أخبر منصور الحضور أنه بدأ في رسم الكاريكاتير منذ سبعينيات القرن الماضي وحتى العام 1992، كاشفاً بسخرية أن من بين أسباب ابتعاده عن الكاريكاتير ما حدث له في سورية، وتحديداً حين فاجأته المخابرات السورية برسم كاريكاتيري يسخر فيه من حافظ الأسد، على إثر إشكالية كانت بينه وبين ياسر عرفات، لأتفاجأ بهم أيضاً يقدمون لي صحيفة اليوم ذاته وفيها صورة يقبّل فيها عرفات الأسد، وما زاد من قناعته بأنه ليس مجاله، وبأن عالم الكاريكاتير خطير، اغتيال الفنان ناجي العلي، بينما تحوّلت العديد من لوحاته إلى أغلفة لمجلات فلسطينية في بيروت، ولملصقات، ما جعلني مقرباً من عرفات والقيادة الفلسطينية، وأحظى بحفاوة كبيرة كلما توجهت إلى بيروت، حتى أصبت بوهم الشهرة الطاغية وانعكست عليّ سلباً، حيث كبلتني في إطار فنيّ بعينه، وقتذاك، لكن الانتفاضة الأولى "حررتني من وهم الشهرة، فذات مرة، وبينما كنت معتاداً على المشاركة في مسيرات ضد الاحتلال، وهو ما تسبب لي بالسجن، اكتشفت أنه لا أحد يعرفني، وأن تلك الشهرة كانت زائفة أو لدى فئة محدودة، وكأنها أعادتني إلى الواقع، وبدأت التجريب متحرراً ممّا سبق، فشكلت وعدد قليل من الفنانين المحبين لفنّهم ولبعضهم البعض حالة فنيّة فريدة، تغيب اليوم لطغيان الفردانية التي تسللت إلى ثقافتنا ما بعد أوسلو".
الأعمال القادمة
وأشار منصور إلى أنه بانتظار المسودة النهائية من كتاب مذكراته الذي من المقرر أن يصدر قريباً عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية، كما أنهى جدارية من الطين سيتم تثبيتها في صدر المتحف الفلسطيني في بيرزيت، برفقة جداريّات لنبيل عناني، وفيرا تماري، وتيسير بركات، أي رباعي جماعة "التجريب والإبداع"، علاوة على إعداد رسومات عدة، من بينها بورتريه لصديقه الفنان الراحل فتحي غبن، يمزج ما بين شخصيته المرحة في فترة زمنية كما عرفه، وشخصيته الجادة في تحوّل لاحق.