من كان بإمكانه أن يتخيل أن الدولة التي ارتكبت حرب إبادة في قطاع غزة وقتلت وجرحت أكثر من 10٪ من سكانه، والدولة التي قادتها مطلوبون للمحكمة الجنائية الدولية، والتي لا تُعير المجتمع الدولي ومؤسساته أي قيمة (جلعاد إردان، سفير إسرائيل في الأمم المتحدة قام بتمزيق ميثاقها وألقاه في القمامة في أيار 2024)، تحصل بعد كل ذلك على مكافأة من مجلس الأمن عبر القرار 2803 الذي تم اعتماده الإثنين الماضي.
قبل أن نُفصل كيف كافأ ما يُسمى المجتمع الدولي في هذا القرار دولة الاحتلال، دعونا نُذكِر بالشروط الإسرائيلية التي وضعتها لإنهاء حربها على غزة والتي اعتمدتها الحكومة الإسرائيلية في جلستها المنعقدة بتاريخ 14 آب الماضي، وكررها نتنياهو بعد ذلك عدة مرات وهي: إنشاء إدارة مدنية في غزة لا تتبع السلطة الفلسطينية أو حماس، نزع سلاح المقاومة، ضمان ألا تتم إعادة تسليح المقاومة، أن تبقى السيطرة الأمنية على القطاع في يد إسرائيل، وإعادة جميع الأسرى الأحياء والأموات لها.
قرار مجلس الأمن هو في نصه ومضمونه تحقيق لهذه المطالب الإسرائيلية:
أولاً، المادة الثانية من القرار تنص على أن مجلس السلام الذي اقترحه ترامب في خطته لوقف إطلاق النار (الخطة الشاملة حسب القرار) هو الإدارة الانتقالية وهي «ذات شخصية قانونية دولية تتولى وضع الإطار العام وتنسيق تمويل إعادة إعمار غزة وفق الخطة الشاملة».
وفي المادة الرابعة من القرار البند «باء» هذه الإدارة تنشئ كيانات تشغيلية وتشرف عليها بما في ذلك «الإشراف على لجنة فلسطينية من التكنوقراط، غير سياسية، من الكفاءات المحلية في غزة».
وفي المادة الخامسة من القرار، لجنة التكنوقراط هذه، ضمن جميع الكيانات التشغيلية الأخرى، مرجعيتها الوحيدة هي مجلس السلام. أو ليس هذا ما تريده إسرائيل لغزة، إدارة لا تتبع السلطة الفلسطينية أو حماس؟
ثانياً، المادة السابعة من القرار تجيز لمجلس السلام (الذي سيترأسه ترامب بموجب القرار) إنشاء قوة استقرار مُسلحة «بالتشاور الوثيق والتعاون مع جمهورية مصر العربية ودولة إسرائيل، وتستخدم جميع التدابير اللازمة لتنفيذ مهامها» والتي منها «ضمان عملية نزع السلاح، بما في ذلك تدمير ومنع إعادة بناء البنية التحتية العسكرية والهجومية والإرهابية، والتخلّص الدائم من أسلحة الجماعات المسلحة غير الحكومية».
هذا بالضبط هو المطلب الثاني والثالث لدولة الاحتلال (نزع سلاح المقاومة وضمان عدم تمكنها من إعادة تسليح نفسها).
ثالثاً، المادة السابعة من القرار تجيز لدولة الاحتلال التحكم في الفترة الزمنية لعملية انسحابها من القطاع وفي البقاء في محيطه ولكن داخله وهي تقول صراحة: «مع بسط قوة الاستقرار الدولية السيطرة وتحقيق الاستقرار، ستنسحب قوات الدفاع الإسرائيلية من غزة وفق معايير ومحطات زمنية مرتبطة بعملية نزع السلاح، يتم الاتفاق عليها بين إسرائيل وقوة الاستقرار الدولية والضامنين والولايات المتحدة، باستثناء وجود أمني محيط سيستمر إلى أن يصبح القطاع آمناً من أي تهديد إرهابي متجدد».
هذا هو المطلب الرابع لدولة الاحتلال والمتعلق بالسيطرة الأمنية عليه، فهي من سيحدد متى ستنسحب من داخل القطاع ومن أي أماكن منه وذلك بالتنسيق مع الولايات المتحدة (الآخرون مجرد حشو لغوي عملياً) وهي في جميع الأحوال ستبقى في محيط القطاع إلى أن تضمن خلوه من «الإرهابيين»، بمعنى ستبقى فيه إلى الأبد وبقرار من مجلس الأمن.
هذا في الشق المتعلق بتنفيذ مطالب دولة الاحتلال، لكن القرار فيه من السوء ما هو أكثر من ذلك بكثير: القرار يكرس فصل الضفة عن غزة، فكلمات مثل الأراضي الفلسطينية المُحتلة أو الضفة الغربية لا ترد فيه مطلقاً، وهو يتعامل مع قطاع غزة كما لو أنه منطقة جغرافية لا ولاية قانونية للسلطة الفلسطينية عليها، وهو يعتبره كياناً منفصلاً وقائماً بذاته، حتى الشرطة الفلسطينية التي يتحدث القرار عن نية «مجلس ترامب» تدريبها لا علاقة للسلطة في اختيار عناصرها أو في الإشراف على تدريبها، أقله في القرار نفسه.
والأسوأ من كل ذلك، هو تلك الصياغة الرديئة التي تهدف إلى جَر العرب للتطبيع مع دولة الاحتلال بذريعة أن القرار يفتح مساراً للسلام.
المادة الثانية من القرار تقول إن مجلس السلام، الإدارة الانتقالية، ستبقى إلى حين «استكمال برنامج إصلاح السلطة الفلسطينية بشكل مُرضٍ، كما ورد في مقترحات متعددة» وإنه «بعد تنفيذ الإصلاح وتقدم إعادة الإعمار، قد تتوفر أخيراً الظروف اللازمة لمسار موثوق نحو تقرير المصير الفلسطيني وإقامة الدولة. وستقوم الولايات المتحدة بإنشاء حوار بين إسرائيل والفلسطينيين للاتفاق على أفق سياسي للتعايش السلمي والمزدهر».
لم أقرأ مُسبقاً نصاً بهذا المستوى من الغموض والخداع. من سيقرر أن السلطة قد «صَلُحَ أمرها»، وأن هذا الإصلاح مُرضٍ ولِمن، ومن هي الجهة التي ستقرر هذا الرضا من عدمه، وكم من السنوات ستأخذ عملية الإصلاح هذه، وهل ستبقى أرض في الضفة الغربية للحديث عنها إلى حين وصول السلطة لحالة ترضى عنها تلك الجهة التي لم يذكرها مَجلس الأمن في قراره؟
ثم ماذا يعني «قد تتوفر أخيراً الظروف اللازمة لمسار موثوق»؟ ألا تُجرد هذه الصياغة الفلسطينيين، حتى بعد إصلاح سلطتهم والرضا عنها، من المسار الموثوق نحو حق تقرير المصير والدولة؟ المسألة ببساطة هي الفرضية الآتية: السلطة أُصلِحت لكن الظروف لم تتوفر لفتح المسار الموثوق لأن «الظروف» في النص لا تقتصر على إصلاح السلطة وهي فضفاضة ولا يُمكن الإمساك بها. ثم نأتي للجملة التي تلي ذلك بأن الولايات المتحدة «ستنشئ حواراً» للاتفاق على أفق سياسي وفيه تم إسقاط الدولة وحق تقرير المصير لصالح حوار قد تسمح له دولة الاحتلال بأن يؤدي إلى تعايش سلمي وفق ما تجود به هي على الفلسطينيين. لا مرجعيات لقرارات دولية لهذا الحوار ولا علاقة للأمم المتحدة به، ولا كلمة حول أن الهدف من الحوار هو إنهاء الاحتلال، وهو في نهاية الأمر كما يبدو حوار للتعايش تحت الاحتلال. لا توجد رداءة أكثر من ذلك.
ماذا بعد؟ حتى دخول المساعدات تقرره دولة الاحتلال وتقرر الجهات التي ستسمح بتوزيعها.
في النص، لا يوجد لمجلس سلام ترامب سيطرة على المعابر فهي ستبقى في يد دولة الاحتلال، ورغم أن القرار يقول في مادته الثالثة إنه «يؤكد أهمية الاستئناف الكامل للمساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة بالتعاون مع مجلس السلام ...ومن خلال المنظمات المتعاونة، بما فيها الأمم المتحدة» إلا أن تصويت الولايات المتحدة الأربعاء الماضي في الهيئة العمومية للأمم المتحدة ضد تجديد التفويض لوكالة الغوث لتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) يعني أن مجلس سلام ترامب قد قرر استبعاد الجهة الوحيدة القادرة على هذه المساعدات للفلسطينيين، وهو تماماً ما تريده دولة الاحتلال.
لست على اطّلاع بالظروف التي دفعت الجزائر للموافقة على هذا القرار وبالتالي امتناع روسيا والصين عن نقضه بالفيتو، لكن أياً كانت الأسباب، فهذا القرار ضد مصلحة الشعب الفلسطيني وسلطته ومقاومته.
الثلاثاء الماضي قتلت دولة الاحتلال 13 فلسطينياً في مخيم عين الحلوة، والأربعاء قتلت 26 في غزة وخان يونس، والخميس ارتفع العدد إلى 35، لعل في ذلك ما يؤكد أن الحرب لم تنتهِ وأن هذا القرار من مجلس الأمن هو امتداد لها بوسائل أخرى.