تاريخ النشر: 11 تشرين الثاني 2025

دردشة مع الروائي علاء حليحل: الكتابة الضميرية لا تعفينا من النضج المعرفي والجمالي

حاوره زياد خداش:

 

علاء حليحل، اسم راسخ ولافت في المشهد الإبداعي الفلسطيني والعربي، يكتب همّ بلاده بنضج معرفي وجمالي، وهو من الروائيين القلائل الذين تمثلوا تعقيد الحياة داخل فلسطين المحتلة في العام 1948، وكتبوا هذا التعقيد بجرأة وجماليات سردية.
صحافي وكاتب مسرحي ومترجم وكاتب قصة قصيرة، يعيش في عكا، وحاصل على جائزة "كتارا" للرواية العربية عن فئة الرواية المنشورة، عن روايته "سبع رسائل لأم كلثوم"، وهذه دردشة معه:

* بالنسبة لي اكتشفتك بانبهار حين كنت راكباً من ركاب باص الزوج السائق.. علاء، هيّا نعود إلى الوراء.. متى بدأت تشعر بأنك صعدت إلى مقصورة الكتابة الناضجة؟
- مع أنّك تُحيل في السّؤال إلى قصّة "زوجي سائق باص" التي نُشرت في كتاب "الأب والابن والروح التائهة"، إلّا أنّ مرحلة النضج في تعاملي مع الأدب (كقارئ وكاتب)، بدأت مع المجموعة التي تلتها بعنوان "كارلا بروني عشيقتي السّريّة".
لا أقول بأيّ شكل إنّني بلغتُ مرحلة النضج في الكتابة، فهذا سيف ذو حدّيْن لأنّ نهاية النضج تعني السقوط عن الشجرة.. ما حدث في مجموعة "كارلا بروني عشيقتي السريّة" أنّني تحرّرتُ من حاجتي لإثبات قدراتي اللغويّة أو الفكريّة أو السّرديّة، وفتحت المجال أمام الخيال الأدبيّ ليقودني في القصص.
هذا تغيُّر هائل لدى كُلّ من يكتب بنظري.. يمكن للمرء أن يتحدّث ساعات وساعات عن المبنى والحبكة وتطوير الشخصيات والأبعاد الأخرى في العمليّة السّرديّة، لكنّ ما يجعل الأدب أدباً في النهاية هو الخيال، التحليق فوق الواقع، الأخذ منه ثم التنكّر له.. اللهو بالكلمات والأفكار والحِيل.. أنا أحبّ أن أردّد دائماً ما أنا مقتنع به اليوم، ويمكنك تسميته النُّضج: "اللهوُ أمر بالغ الجديّة".

* في بداياتنا نقع في غرام أدباء بشكل هستيريّ، ثم نستغرب بعد النضوج أننا كنا متواضعين. بالنسبة لي كان يوسف القعيد معبوداً ليلياً ثم تغير الشعور كثيراً مع تقدّم السّنين.. مَن الكاتب الذي انبهرت به قديماً ثم ضحكت على نفسك وأنت تتذكره؟
- جبران خليل جبران.. في أيّام المراهقة كُنّا نجتمع في غرفة ابن صفّي لساعات. نُدخّن بشراهة ونقرأ من "رمل وزبد" و"الأجنحة المتكسّرة"، ونتنافس حول مَن سيُعبّر عن إعجابه بجُبران أكثرَ.. عندما كبرتُ وقرأت "الأجنحة المُتكسّرة"، "صابني فالج"، كما نقول بلهجتنا العاميّة، من أسوأ ما كُتب باللغة العربيّة.. كتابة مبتذلة، وحبكة سخيفة، وإفراط غير مفهوم في المراهقة الساذجة بمفهومها السلبيّ، من شخص يُفترض أنّه من عباقرة الكُتّاب العرب.

* ما هي الرواية العربية أو العالمية التي ما زالت تطاردك، وقرأتها على مدار محطات حياتك، وتعلمت منها الكثير؟
- لا يمكن حصر الإجابة في رواية واحدة يا زياد، من مثلك أدرى؟! يُمكنني أن أعدّد لك العشرات، وسيهبّ الكثيرون ليلوموني على عدم اختيار "المتشائل"، و"الحب في زمن الكوليرا"، و"حفلة التيس"، و"خالتي صفية والدير"، و"بيضة النعامة"، و"كأنّها نائمة"، ومع ذلك، اغفر لي اختياري لثلاث روايات قرأتُ كلّ واحدة منها في مرحلة مختلفة من حياتي، وتأثيرها الشخصيّ عليّ هو من وراء اختيارها بالذات: "الياطر" لحنّا مينة، منها تعلّمت كتابة السّرد الذاتيّ الذي يقترب من المونولوج الطويل اللاهث، وقدرة السّرد على التعمّق في مكنونات الإنسان، وما زالت أوّل جملة فيها تخطر في بالي على الدّوام ولسنوات طويلة: "أنا زكريا المرسنلي، لست راضياً عمّا حدث، وأقسم على ذلك"، ورواية "المقامر" لدوستويفسكي، التي تعلّمتُ منها كيف تكون الكتابة الساتيريّة الاجتماعيّة الحقيقيّة، التي تُضحكك وتلسعك في اللحظة ذاتها، وسأختار أيضاً رواية "صاخب جداً وقريبٌ للغاية" (Extremely Loud & Incredibly Close) للأميركيّ جوناثان سافران فوير، وهي رواية مذهلة في عُمقها السرديّ وقدرتها على عكس مأساة كبيرة من خلال قصّة طفل صغير يبحث عن سرّ مفتاح صغير خبّأه والده قبل وفاته.

* حدثني عن سياق تحوّلك لكتابة الرواية قادماً من القصة القصيرة. هل خططت أو فكرت في هذا التحوّل؟
- من المثير حقّاً أن تقول ذلك، مع أنّ أوّل نص نُشر لي ولقيت على إثره الترحاب هو رواية "السّيرك".. هذه الرواية الساذجة وغير الناضجة فازت في العام 2000 بجائزة عبد المحسن القطان للكاتب الشاب في دورتها الأولى، ونُشرت ضمن كتاب جماعي للمشاركين والمشاركات.. أعتقد أنّ هذه الرواية نُسيتْ وأنا تفاديتُ إعادة نشرها لأنّني غير مقتنع بها. طبعاً سبقتها كتابة قصص قصيرة في الصحف والمجلات، وأنا لليوم أحبّ القصص القصيرة وأعمل الآن على مجموعة قصصيّة جديدة أرجو أن أنتهي منها قريباً.
الكاتب الأميركي ريموند كارفر مؤلف الكتاب الشهير "عمّ نتحدث حين نتحدث عن الحب"، قال مرّة: "الرواية تحكي قصّة الرحلة بأكملها، أمّا القصة القصيرة فتتوقف عند مفارق الطرق فقط". بهذا المعنى الحبكة هي التي تفرض نفسها وتفرض طرق معالجتها أدبيّاً، وأنا أحبّ الرواية والقصّة بالقدر ذاته، رغم انحياز القراء والقارئات الكامل للروايات.

* ثمة من يشعر بأنّ التعقيد في حياة فلسطينيي الداخل يجب أن يستدعي نضجاً أو عمقاً أكبر في الأدب والمسرح والسينما الفلسطينية داخل "الخط الأخضر"؟
- الفلسطينيّ مُطالب أينما كان بشحذ أدواته المهنيّة ومشروعه الجماليّ بشكل مستمرّ ودؤوب، لأنّ عليك كفلسطينيّ أن تروي القصص ذاتها، ولكن بأساليب جديدة طيلة الوقت. نحن كلّنا ما زلنا نكتب في ظلّ النكبة، وحرب الإبادة في غزة أعادتنا إلى هذه النقطة مُجدّداً وبشكل أكبر وأكثر حضوراً. بهذا المعنى أنا أرى حاجة حقيقيّة لدى من يكتب من فلسطينيّي الداخل بإعادة اكتشاف الذات والوعي الجماعيّ، وعدم الارتكان إلى تصنيفات مرحليّة مثل "الكتابة بعد أوسلو" و"الكتابة بموازاة الآخر".
أمّا بخصوص النضج فكلّ الفلسطينيّين مُطالبون به، كُلُّ في موقعه وسياقه. الكتابة عن قضية ضميريّة وإنسانيّة كالقضيّة الفلسطينيّة لا يجب أن تُعفي أحداً من النضج المعرفيّ والجماليّ والمهنيّ، وهناك الكثيرون للأسف مِمّن يستغلون "القضيّة" لإنتاج نصوص رديئة أو تحت المستوى المطلوب.

* أحببت "أورفوار عكا" كثيراً لأنّي من مدرسة قراءة التاريخ من منظور إبداعيّ وجماليّ وخياليّ، ولم أرتح لرواية "سبع رسائل إلى أم كلثوم"، لأنّ صديقة تخلت عنّي أحبّتْها جدّاً.. كيف نُحبّ الروايات يا علاء؟ ما الذي يجعلنا متيّمين فيها أو باردين تجاهها؟
- لا عليكَ يا صديقي. إذا كانت صديقة تخلّت عنك وأحبت "رسائل أم كلثوم" فهذا أهمّ سبب في العالم كي تكره الرواية.. الكتب مرآتنا الأصدق، وعلاقتنا معها مِجسّ صادق وطويل ومستمرّ لعلاقاتنا مع أنفسنا ومع حيواتنا. هناك من قال: إنّ القارئ الحقيقيّ لا يبحث في الروايات عن صورته في النصّ، بل عن الكتاب الذي يرغب بتأليفه بنفسه. هذا ما يشدّنا إلى القراءة والبحث دائماً.. البحث السيزيفيّ عن ذلك النصّ الذي نرغب نحن بكتابته، وهذا ما يثير خيباتنا من الروايات التي لا تفعل ذلك.
وإذا كانت صديقتك التي تخلت عنك أحبّت روايتي لهذه الدرجة، فمن الطبيعيّ أن تتنكّر أنتَ للرواية وتدفعها عنك بغضبٍ. لا يمكن لشخص أن يدّعي حبّ الأدب أن يتفادى الوقوع فريسةً للانحياز التامّ مع أو ضدّ الأعمال التي تعني له ولمُحبّيه شيئاً في الحياة.