تاريخ النشر: 10 تشرين الثاني 2025

"ملاذ".. بيان مسرحي لجيل يافع يُواجه "الخربشة والفوضى"!

كتب يوسف الشايب:

شكلّت مسرحية "ملاذ"، تجربة فنية تخرج عن المألوف، لا لكونها عرضاً احترافياً مصقولاً، وإن أمكن وصفها بذلك، بل لكونها شهادة حيّة وصادقة من جيل يافع (14 - 16 عاماً) يبحث عن صوته الخاص وسط ضجيج العالم.
"ملاذ"، التي أخرجها الفنانان عيد عزيز ومسعد هاني، عن نص للفنانة بترا برغوثي نسج أفكاره المشاركون أنفسهم، نتاج مشروع فني يحمل اسم "صوت قصة حيّة"، كان ثمرة ورشة عمل مكثفة استمرت ستة أشهر بين مدرسة "طقس" للمسرح، ومؤسسة عبد المحسن القطان، التي احتضنت العرض في مقرها بمدينة رام الله، مؤخراً.
ورغم أن الفنانين ليسوا ممثلين محترفين، والعرض تجربتهم الأدائية الأولى، فإن "ملاذ" فرض نفسه كعمل مختلف في سياق المسرح الفلسطيني المعاصر والحديث، وعمل للانطلاق نحو مسرح فلسطيني جديد يتجاوز النمطية، والكلاسيكية، والتكلس.
"ملاذ" كعنوان ليس مجرد اسم، إنّما ثيمة مركزية ومبتغى أسمى للعرض، فهو تكريس لحالة البحث الدائم عن مساحة آمنة، فكرية كانت أم عاطفية، في واقع مُشبع بـ"الخربشة" والفوضى.
لا تقدم المسرحية شخصيات بالمعنى التقليدي (أبطالاً في حبكة)، بل تقدم "حالات" أو "جُزراً معزولة" تمثل كل واحدة منها آلية للتكيف أو المقاومة، كل شخصية هي "رمز" لطريقة في الوجود.
"حرير" (ساحرة الكلمات)، ترمز إلى قوة الإبداع والخيال، عبر الشعر والأدب كأداة هروب وبناء عوالم بديلة، لكنها تصطدم بالواقع عندما تُطالب دار النشر بـ"ديوان لا يتدخل بالسياسة"، ما يطرح إشكالية الفن مقابل الواقع والرقابة، أما "زند" (عالمة النجوم)، تمثل الهروب إلى "الكوني" والعلمي (علم الفلك).. هي تبحث في المجرات عن نظام ومنطق يفتقده الواقع الأرضي، في محاولة فك شيفرة الفوضى عبر النظر إلى الأعلى، بعيداً عن "التطعيمات" و"الفيروسات" الأرضية.
"مي" (طبّاخة الأمل)، ترمز إلى "الرعاية" ومحاولات "الشفاء"، فهي لا تطبخ طعاماً، بل "وصفات للسعادة" و"سلطات طاردة للطاقة السلبية"، تمثل محاولة يومية بسيطة لإصلاح ما هو مكسور عبر التغذية الجسدية والروحية، في حين أن "عابد" (عداد الزمن الكوني)، يمثل القلق الوجودي تجاه الوقت، فهو يرى الزمن "يتسارع" و"ينكمش"، في رمزية واضحة للشعور بضياع العمر والفرص في سياق الانتظار واللاجدوى.
"شيرين" (صوت المدينة)، هي الصحافية التي تحاول "رصد الحقيقة" وتوجيه الأسئلة، لكن صوتها غالباً ما يضيع وسط الضجيج، وتصبح مقابلتها مع "حرير" جزءاً من الفوضى لا حلاً لها، في حين أن "بلقيس" مصممة الأزياء فتبقى دائمة البحث عن "فأرها المفقود"، الذي يرمز لفقدان البراءة، والأمان، الحلم، فيما محاولتها تصميم الأزياء هي محاولة لإعادة بناء هوية جميلة من بقايا الفقد، فيما تكتمل دائرة الشخصيات مع "أحلام" (خياطة الأقدار)، فتحاول "خياطة" واقع مهترئ بـ"إبرة مرتعشة"، في صراع مباشر مع "لعنة القدر"، ممثلة الإرادة البشرية البسيطة في مواجهة حتمية الظروف.
المضمون الأبرز لـ"ملاذ" هو "العزلة وسط الضجيج"، حيث يبدأ العرض وكل شخصية في "محطتها" الخاصة المنعزلة (طاولة، مصباح، ميكروفون)، يتحدثون في وقت واحد، ما يخلق "خربشة" صوتية وبصرية مقصودة.. هذا الضجيج ليس خارجياً فقط، بل هو انعكاس لـ "الفوضى المعلوماتية"، و"القلق الداخلي" الذي يعيشه هؤلاء اليافعون.
"ملاذ" رحلة "من الفردي إلى الجماعي"، تنطلق كأصوات فردية متنافرة، أو هكذا يتبدّى، وتنتهي بصوت جماعي واحد، فيما يحدث التحول الأهم عندما يتركون "محطاتهم" الآمنة ويلتقون في المركز، ليعلنوا نصهم الجماعي المزلزل: "أحلامنا مخترقة، ليلنا طويل، صوتنا ضوء في آخر الطريق.. نرى من حولنا المحال، نمسك بالحلم كعصا، كعين، كدليل".
وفي ما وراء النص، يكمن إدراك هذا الجيل أن "الملاذ" الحقيقي ليس في الهروب الفردي (إلى النجوم أو الشعر أو الطبخ)، بل في تشابك الأيدي وصناعة "صوت جماعي" يضيء عتمة "الليل الطويل".
كما يكمن تفرّد "ملاذ" في كونه نتاج "مسرح ورشة"، يعتمد على المسرح الوثائقي، حيث المادة الخام هي من وحي قصص وأفكار الممثلين أنفسهم، كما تميّزت السينوغرافيا، باستخدام "المحطات" المنعزلة، الذي كان شديد الذكاء، باعتبارها "جُزر" الأمان لكل شخصية، وفي الوقت نفسه "سجونها" الصغيرة، في حين عزّزت هذه الأضواء الخافتة والمصابيح الشخصية هذه العزلة، أما الصناديق في المنتصف، فهي "المادة الخام" لبناء الملاذ المشترك الذي يتشكل في النهاية.
وكان الأداء المتزامن، عبر قرار جعل الشخصيات تتحدث معاً في البداية "أسلوب فني" مغناطيسي لخلق الإحساس بالضجيج الذي يعيشونه ويريدون الهروب منه، لاسيما أن قوة مسرحية "ملاذ" لا تكمن في احترافية الأداء، بل في صدقه وعفويته، وفي تكوين عمل وتقديمه بشغف وحميمية لا يمكن تصنّعها.

وجسّد الأدوار في "ملاذ"، كل من الفنانين: ألما ابو حسن، وتالين جبارين، وجود فقهاء، وحلال جبارين، وسحر أبو ريدة، وشام حسونة، وفاطمة مصلح، وعمر يخلف، ومينا بحبح، وهيام الطوري.
"ملاذ"، في نهاية المطاف، تمنح الميكروفون لمن لا يُسمع صوتهم عادةً، علاوة على كونها تمريناً شجاعاً في الترجمة الفنية للقلق الوجودي والسياسي لجيل فلسطيني يافع، قوتها الحقيقية في إصرارها على أن الحلم، في سياقهم، ليس رفاهية، بل "دليل" لا غنى عنه لعبور "الليل الطويل".