كنت كتبت عن المفاتيح وجدواها، وعن الفلسطيني ولوثة المفاتيح. قادتني الكتابة إلى الكتابة، فالحكاية تخرج من الحكاية والكتابة تسلّم نفسها إلى أخرى.
كتب الفلسطينيون عن المفاتيح التي احتفظوا بها، وتساءل بعضهم عن جدواها، فقد غيّر المحتلون الأقفال، وفي الحرب الحالية هدموا البيوت وسووها بالأرض، فلم تبق أبواب ولا أقفال ولا جدران ولا سقوف، وأعادوا الفلسطينيين، كما هددوا، إلى العصر الحجري، ليسكنوا الخيام.
ماذا كتب الفلسطينيون عن الأبواب؟
سوف أحكّ ذاكرتي الأدبية وأسترجع نصوصهم الأدبية التي حضر قسم منها وأنا أكتب عن المفاتيح، فالصلة بين الباب والمفتاح مثل ثنائية الذكر والأنثى، فما من مفتاح إلا له قفل/ سكرة، وإن كان المفتاح مفتاح بيت فكل مفتاح له باب، ولك أن تتوسع في هذين الدالين وتذهب إلى الاستعارة. باب الحكاية، وباب المعجم والقاموس (لسان العرب)، وباب البدل والعطف في كتب النحو، وباب جهنم والجنة ومالك ورضوان وأبواب السماء، كما قال أبو تمام: «فتح تفتح أبواب السماء له»، وباب السيارة، و بوابات المدينة، وباب العامود، وباب الحرية الذي غالباً ما نذكره ونحن نردد بيت الشاعر أحمد شوقي في قصيدته التي مطلعها «سلام من صبا بردى أرق»:
«وللحرية الحمراء باب، بكل يد مضرجة يدق»... الخ.. الخ. وهو البيت الذي ردده يحيى السنوار في أيامه الأخيرة على أنقاض مدينة رفح.
والأبواب، كما كتب جوزيف حرب وغنته فيروز، لها حكايات. وداع الأصحاب والأحباب. ولذلك فـ «شي منها غرب وشي صحاب وشي مسكر وناطر رجعة الغيّاب». الأبواب وقت يسكّرها صاحبها، وهو يلوّح لمن فارقه، يأخذه الحنين، لأنه سيشتاق وهو ينطر سنين. علاقة الناطر بالباب علاقة متداخلة، فعمره محفور فيه، ولهذا يسميه باب العذاب. والأبواب لها صفاتها حسب علاقة أصحابها بها. «باب غرقان بريحة الياسمين وباب مشتاق وباب حزين وباب مهجور أهله سنين».
كان عبد الكريم الكرمي (أبو سلمى) من أوائل الشعراء الفلسطينيين الذين ورد دال الباب في شعرهم الذي عبّروا فيه عن حنينهم إلى بلدهم وإصرارهم على العودة «سنعود» فـ غداً ستعود آلاف الضحايا، ضحايا الظلم تقرع كل باب». (طبعاً لا ننسى قصيدة إبراهيم طوقان قبل النكبة «الفدائي» وقوله فيها: «هو بالباب واقف والردى منه خائف»).
وشغلت الكتابة عن البوابات حيزاً لا بأس به من النثر الفلسطيني. كانت البوابة مكاناً تجتمع فيه العائلة الفلسطينية، المشتتة والباقي جزء منها في فلسطين، مرة في العام، وهنا أخص «بوابة مندلباوم» التي وردت في قصة سميرة عزام «عام آخر»، وقصة إميل حبيبي «بوابة مندلباوم» وقصيدة توفيق زياد «رسالة عبر بوابة مندلباوم» ورواية غسان كنفاني «عائد إلى حيفا».
كتبت سميرة عن أم فلسطينية لاجئة تأتي من بيروت إلى القدس لتلتقي ابنتها التي تزوجت في الناصرة وبقيت فيها، وكلما جاءت الأم تغيبت الابنة بسبب المرض أو الولادة.
وكتب إميل عن لقاء العائلة التي تشتتت بسبب الحرب أيضاً، ووصف ما يجري على البوابة فلا منطق يقنع بما جرى. إنه منطق سرعان ما يتهاوى أمام كرة الطفل التي تجتاز شطرَي البوابة.
ونعت زياد البوابة بأنها بوابة الأحزان.
وأما غسان كنفاني فكتب عن بوابة فتحها الإسرائيليون بعد حرب حزيران ١٩٦٧ كان يجب أن تفتح من جهة أخرى. هنا يجب ألا ننسى مسرحيته «الباب» التي كتبها في العام ١٩٦٤ ورمزية الباب فيها. لكي نخرج من الغرفة التي حشرنا فيها علينا أن نحفر على الباب بأظافرنا وأن نحطمه، وقد ربط دارسو المسرحية بينها وبين رواية «رجال في الشمس» (١٩٦٣) التي مات فيها الفلسطينيون دون أن يدقوا جدران الخزان. كأن المسرحية تعمق ما كمن في وعي الكاتب: لكي نعود إلى فلسطين ليس أمامنا سوى خيار المقاومة.
بعد هزيمة ١٩٦٧ وتظاهرات الفلسطينيين في المدن عمل الاحتلال على إغلاق بعض مداخل المدن القديمة مثل نابلس بالبراميل وصبها بالإسمنت، وكان على المواطنين أن يقطعوا مسافات، عبر طرق التفافية، ليصلوا إلى بيوتهم.
غير أن هناك من كتب عن تجربة خاصة مع الباب، وأخص فدوى طوقان في قصيدتها «أمام الباب المغلق» التي حملت عنوان الديوان الصادر في ١٩٦٤.
تحكي الشاعرة عن تجربتها المرة بعد أن منعت من إكمال تعليمها وأجبرت على المكوث في البيت، لتغدو سجينته. إنه أمر رب البيت وقرار الذكور الذين لم يكترثوا لصرخاتها
«هلا تفتح لي هذا الباب/ وهنت كفي وأنا أطرق أطرق/ بابك/ أنا جئت رحابك استجدي/ بعض سكينة/ وطمأنينة/ لكن رحابك مغلقة/ في وجهي غارقة في الصمت/ يا رب البيت/ مفتوحاً كان الباب هنا/ والمنزل كان ملاذ الموقر بالأحزان/ مفتوحاً كان الباب هنا والزيتونة/ خضراء تسامت فارعة».
وفي سيرتها «رحلة صعبة.. رحلة جبلية» ١٩٨٧، تكتب فدوى عن البيت/ السجن الذي وضعها فيه أخوها يوسف بعد إخراجها من المدرسة ولم تتنفس هواء الحرية منه إلا بعد سفرها إلى لندن في العام ١٩٦٢ تقريباً.