
كتبت بديعة زيدان:
وصفت الشاعرة والكاتبة الفلسطينية أحلام بشارات نفسها بـ"الكائن اللغوي"، مشددة على أن الكتابة بالنسبة لها فعل حياة يومي، فمثلما يقوم الآخرون بأفعالهم في سياقات حيواتهم المختلفة، تقوم هي بالكتابة، التي بدأتْ ترافقها بشكل تلقائي بالأساس، مشبهة إياها بالأرض، لارتباط كليهما العميق بها، باعتبارها "فلاحة صغيرة"، كما وصفتْ نفسها أيضاً.
وفي أولى أمسيات "مزاج الحضورية"، بتنظيم من مبادرة "غرفة الكتابة"، بالتعاون مع مكتبة خطوط، وبيت الثقافة والفنون في العاصمة الأردنية عمّان، وفيه، قبل أيام، تحدثت بشارات عن طفولتها، وكيف أنها بدأت رحلتها مع الأدب طفلة بسرد القصص على ذاتها، لتسلّي نفسها حين كانت تساعد أسرتها في فلاحة الأرض، فشكلت الكتابة، وقتذاك، وسيلة لإمتاعها هي لا غيرها، حيث كانت الطفلة أحلام تروي قصص ما قبل النوم لذاتها، من وحي برامج الأطفال، وخاصة المسلسلات الكرتونية اليابانية المدبلجة للعربية، وكانت قاسماً مشتركاً لنا في فلسطين والأردن تحديداً، لاسيما لمن كانوا أطفالاً في ثمانينيات القرن الماضي، فاستولت عليها كما غيرها، لكنها شكلت أحلامها أيضاً، فباتت أحلاماً فلسطينية عربية مستوحاة من واقع ياباني!
وفي الأمسية التي شاركتها فيها الكاتبة الأردنية سوار الصبيحي، وأدارتها الأكاديمية والكاتبة د. زينب القيسي مؤسسة مبادرة "غرفة الكتابة"، كشفت بشارات أنها كتبتْ متأثرة أيضاً بما كان يقصه عليها والداها، مستعيدة ممّا في ذاكرتها أن والدها كان يختم قصته بالقول: "حكيت حكايتي، طار عجاجها وعليكي تردي نعاجها"، فكانت "ترّد نعاج" والدها بما تكتب، ولا تزال، على حد تعبيرها.
ومع الوقت، وخاصة حين باتت تكتب للأطفال واليافعين، باتت الكتابة لديها معجونة بالوعي والمسؤولية، وبالحس الجاد لجهة البحث عن موضوعات متعددة ومتنوعة، وأشكال تعبير مختلفة، وهذا ما جعلها تتنقل بين الكتابة للأطفال، وقصص اليافعين، والشعر، والجنس المفتوح كما في كتاب "سيرة المذاق.. طعم فمي"، وغير ذلك.
وقرأت بشارات من مجموعتها الشعرية الوحيدة "اسم الطائر"، قصيدة بعنوان "أبي جدّي"، جاء في مطلعها: "أبي لم يكن أبي، أبي كان جدّي دائماً.. كلّما تحدثت عنه كنت لا أقصده، كنت أقصد العجوز الذي أحببت صورته في صلاة الفجر.. أتذكره جيّداً يحمل طوريّته ويركض خلف الماء، ويسبقه، وكنت بين رجليه أتراكض، حفيدته، بالشبشب والغمّازتين.. لا تغيب تلك الصورة من رأسي أبداً، لقد علمني جدي الحكم كي لا أستعملها، وعلمني كيف يعيش الإنسان حزيناً بحكم كثيرة تفوح بالنصر.. كان كلما طالت به الحياة تحسّس آلام ظهره، هزال ساقيه، وسقوط أسنانه.. وبقوة شاب في العشرين صام شهرين متواصلين في الشتاء الأخير تكفيراً عن أخطائه (...)".
وعلّقت بشارات: هذا ما حدث فعلاً، فقد صام شهرين في أيامه الأخيرة رغم أنه كان يقترب من عامه المئة، تكفيراً عن خطأ ارتكبه عن غير قصد، كما شهدت سقوط آخر سن من فمه، وكان قاسياً على كلينا، هو الذي كان قارئي الأول، رغم أنه لم يدرس إلا للصف الرابع، هو الذي خسرته قبل عامين.
ومن ذات المجموعة الشعرية، التي وصفتها بأنها "فك لشيفرة العائلة"، قرأت الشاعرة الفلسطينية قصيدة ثانية بعنوان "بثرة التكرار"، وترصد فيها يوميات وأوضاع نساء قريتها، وتقاطعاتها مع يومياتها وحيواتها، وأخرى بعنوان "كأس النكل".
وأشارت بشارات إلى أنها منفتحة على التجريب في الكتابة، فبدأت قاصة، ومن ثم كتبت القصة القصيرة جداً، ولا تزال تجرّب وتختبر نفسها، لكن الوقت لا يسعفها، فالفلسطيني ملاحق بالوقت دوماً، فهو خارج الزمان وخارج المكان كما قال إدوارد سعيد، لافتة إلى أنها تنتمي كتاباتها لليافعين للواقعية السحرية، لكنها تتمنى كتابة روايات المغامرات، وأيضاً التوسع في الرواية التاريخية بعد أن كتبت قصتها "مريم سيدة الاسطرلاب"، دون التفكير بكتابة الخيال العلمي.
ووجدت أحلام أن الشعر يسكن نثرها، أنها عاشت وهم الشعر مُراهقة، لكنها اتجهت نحو الإيقاع حين كان مضمون ما تكتبه سرداً يتطلب ذلك، وكل ما تفعله يتأتى من باب التجريب، وسبق لها أن رسمت بعض اللوحات، وشاركت ممثلة في فيلم فلسطيني، وممثلة مسرحية أيضاً، مشددة على ضرورة فتح نوافذ الأجناس الإبداعية والكتابية على بعضها البعض، لعلها تنجح في التخلص من الملل الذي هو من طباعها الشخصية، واصفة نفسها بالتلقائية كـ"غنمة سمراء سارحة ع الجبل"، وبأنها تشبه الحياة والطبيعة، وتشبه نفسها ونشأتها في "طمّون" بالأغوار الشمالية.
وشددت بشارات على أنه من الصعب عليها استيعاب كيف تعيش قصيدتها أو تعيش نصاً تكتبه بينما تموت قصة أخرى أو يُغتال نص سردي في غزة، معلنة إيمانها بذلك الالتحام العضوي في عالم موازٍ يعيش فيه الشعر والأدب والفن عموماً، واصفة ما يحدث في غزة بالمحاكمة الأخلاقية لكافة معايير الجمال والخير والإنسانية، متحدثة عن بعض من حكاياتها مع وفي غزة، قبل حرب الإبادة وبعضها، لتقرأ نصوصاً وقصائد للشعراء ناصر رباح، وحسين عثمان، وأنيس غنيمة، في حين قرأت الصبيحي قصائد للشعراء حيدر الغزالي، وفداء زياد، وحسام معروف، وجميعهم من القطاع الذي يباد منذ قرابة العامين.
وختمت: لم أكن أحب "الفيديو آرت"، لكن في الحرب المتواصلة على غزة، كتبتُ القصة القصيرة وتكوّنت حواجز بيني وبين الشعر، وبت أحب "الفيديو آرت"، فقد أحسست أنه يعبّر عن مشاعر داخلي لا أستطيع التعبير عنها بالكلمات، حيث تمتزج الفنون البصرية بالسينما وبشاعرية ما وغيرها، وهذا شيء مما تغيّره فينا الحرب، مؤكدة: "نحن لسنا إلا صوتاً لأهلنا أينما حملتنا الدنيا وحطت بنا".