حاوره: مجموعة الجمهورية
هذه مختارات من حوار طويل أجراه موقع الجمهورية مع المثقف السوري «فاروق مردم بيك» في تموز الماضي، ونشر في أيلول الجاري.
«الجمهورية» موقع أسسه العام 2011 عدد من الكتّاب والطلاب والمدوّنين وأرادوه، كما يشيرون في تعريفهم عن أنفسهم، «منبراً لمعرفة تحرّرية جديدة، تنطلق من مبادئ النقاش الفكري الرّصين والحرّ وتستهدف بشكل أساسي التاريخ والثقافة والبنى السياسية والاجتماعية السورية».
يحظى فاروق مردم بيك باحترام جامع بين السوريين المشتغلين بالشؤون العامة، على قلة ما يجتمعون عليه من أمور، ومعهم في ذلك لبنانيون وفلسطينيون كثيرون.
ليس في الأمر سر، فقد حافظ الرجل على انحيازات تحررية وتقدمية، وإن كان تحول عن تعبيرات إيديولوجية لها.
لم تجتذبه السلطة، وما يزدريه أكثر من أي شيء آخر هو الانحياز للأقوياء والتضامن معهم، سواء باسم العقل أو الحداثة أو مناهضة الامبريالية.
وهو بعد ذلك مبتعد عن المماحكات وحروب المكانة، قريب من القلب، وإن لم يكن عامل تقريب بين الناس، فهو بالقطع ليس عامل تفريق ومخاصمة.
فاروق مردم بك كاتب ومثقف عام، وناشر، يدير اليوم السلسلة العربية في دار أكت سود في باريس، ويسهم في إدارة «آحاد سورية حرية»، وهو لقاء ثقافي حواري شهري، يجمع سوريين مقيمين في فرنسا أو قادمين إليها.
هذا الحوار حصيلة لقاء مع فاروق وقت كان في زيارة إلى اسطنبول في منتصف تموز الماضي.
- هناك اليوم سرديةٌ تقول بنوعٍ من الفصام الكامل بين الواقع الذي تعيشه دمشق، وواقع الحرب والموت والتشرد الذي يعيشه بقيّةُ السوريين في المناطق الأخرى من سورية. بوصفك دمشقياً عتيقاً، كيف تنظر إلى مقولة الفصام الكامل تلك، وهل لها جذورٌ تاريخية باعتقادك؟
*أوّلاً، ليس هذا الانفصال قديماً، بالمعنى المقصود في هذه الأيّام، وثانياً، في دمشق أكثر من دمشق واحدة.
لا أنفي طبعاً المنافسة القديمة بين دمشق وحلب، مثلاً، ولا خصوصيّة دمشق باعتبارها عاصمة البلاد، في نظر أهلها وفي نظر بقيّة السوريّين، ولا تسيّدها التاريخي على الأرياف القريبة والبعيدة، إلا أنّي أعتقد أنّ الانفصال الذي تتكلم عنه نتيجة سياسة مقصودة من طرف نظام حافظ الأسد.
لن أعود الآن إلى تحليل بنية هذا النظام، ولكن لا بدّ من الإشارة إلى أنّه كان يسعى منذ قيامه إلى إنشاء حلفٍ بين عصبته الطائفيّة الضيّقة من جهة، وبين بعض الأرياف من جهةٍ ثانية، وبين مدينة دمشق بالذات من جهةٍ ثالثة، لأنّها عاصمته و«واجهته» والمركز الرئيس لبيروقراطيّته وأجهزته القمعيّة.
ولا شكّ في أنّ حافظ الأسد استفاد في مسعاه من عداء الدمشقيّين الشديد لنظام 23 شباط، إذ دفعهم إلى الترحيب بانقلابه آملين انفتاحاً ما، سياسيّاً واقتصاديّاً، و«ترطيباً» للعلاقات المُتوتّرة مع أغلب الدول العربيّة.
ما زلت أذكر اللافتة التي رُفِعت في سوق الحميدية، «طلبنا من الله المدد، فأرسل لنا حافظ الأسد».
لا يعني هذا أن الدمشقيّين أصبحوا أنصاراً مُتحمّسين للنظام، ودليلي على ذلك الاحتجاجات الشعبيّة اللاحقة، التي اتّخذ بعضها طابعاً دينيّاً، وبعضها طابعاً مدنيّاً، بهمّة النقابات المهنيّة.
وفي نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات، شاركت قطاعات دمشقيّة واسعة في الحراك الشعبي الذي عمّ مناطق عدّة من البلاد.
لا يُنكَر مع ذلك، أنّ تُجّار دمشق هم الذين أفشلوا الإضراب العام آنذاك. هل كانوا فعلاً مع النظام؟ هل كانوا يؤيّدون سياسته الاقتصاديّة أو مواقفه الإقليميّة والدوليّة؟ أعتقد أنّ عواطفهم كانت تتلخّص بالمثل الشعبي المعروف «الايد يلّي ما بتقدر تعضّها بوسها وادعي عليها بالكسر»! وما زالوا حتّى اليوم على هذه «التقية السنيّة»، ومثلهم مشايخ النظام الدجّالون.
أضفْ أنّ أغلبهم، حتّى المنتفعين مباشرةً من النظام وشركاء المافيات الأسديّة، طائفيّون في أعماقهم حتّى النخاع، قد يُدافعون في العلانية عن بشّار، ويُحمّلون المعارضة بتنويعاتها مسؤوليّة الخراب، ولكنّهم يلعنون العلويّين سرّاً في قلوبهم و«وشوشة» في مجالسهم الخاصة. وتبقى مصالحهم الطبقيّة، بطبيعة الحال، فوق أيّ اعتبارٍ سياسيٍ أو أخلاقي. لا يستغرب مواقفهم السافلة إلا الذين يُفرّغون الثورة من مضمونها الاجتماعي، و«يُنزّهونها» عن الصراع الطبقي.
من جهةٍ ثانية، حين نتحدث عن دمشق، فإننا نتحدث عن مدينة عدد سكانها أربعة ملايين نسمة وأكثر، منهم سكّان حزام الفقر الذين انخرطوا في الثورة، واستهدفهم النظام بشراسةٍ تفوق الوصف.
هؤلاء دمشقيّون أيضاً، وكذلك سائر أبناء ريف دمشق القريب المتّصل بها عُمرانيّاً، بالرغم من الفروق الاجتماعيّة والثقافيّة بينهم وبين قُدامى الدمشقيّين و«المُتدمشقين» من ذوي الأصول الريفيّة، الذين استقرّوا في العاصمة منذ مُنتصف الستّينيات.
لم تعد دمشق منذ زمنٍ بعيد مدينة الأعيان وعلماء الدين والتجار والحرفيّين، وغيرهم من مكوّنات المجتمع الدمشقي التقليدي.
لنضع في حسابنا أيضاً، عند الكلام عن الموقف الدمشقي المهادن، جميع الوافدين إلى المدينة، والقادمين من مدنٍ وأريافٍ مختلفة، ويُقدَّر عددهم بمئات الألوف، ولنضع في حسابنا، من جهة ثانية، الدمشقيّين المعارضين الذين لا يقلّون عنهم عدداً، وتظاهروا وقُتلوا وسُجِنوا.
- قضيتَ خمسين سنةً في المنفى، منها أربعون عاماً لم تعد فيها إلى دمشق. كيف تنظر إلى هذه الفترة؟ كيف يمكن لدمشقي أن يبقى أربعين عاماً دون أن يزور دمشق؟ كيف تنظر إلى هذا الأمر على الصعيد الشخصي وعلى الصعيد العام؟
*على الصعيد الشخصي، أوّلاً. حين ذهبت إلى فرنسا في 1965، كُنت شاباً صغيراً، في العشرين من عمري، متخرجاً لتوّي من الجامعة، وكان مشروعي البقاء في فرنسا ثلاث أو أربع سنوات، أي إلى أن أحصل على شهادة الدكتوراه في العلوم السياسيّة، ثمّ أعود وأدرّس، إذا سنحت لي الفرصة، هذه المادّة في جامعة دمشق. لاحقاً، ولأسباب مختلفة، عامّة وخاصّة، طالت مدة إقامتي في فرنسا. أنجزت دبلوم العلوم السياسية، ولكنّني انخرطت بعد ذلك في العمل السياسي، عربيّاً وفرنسيّاً: عربياً، بعد 1967، في الإطار الفلسطيني الفتحاوي بشكل خاص، وفرنسيّاً، بعد 1968، في الإطار الشيوعي الماوي.
استمرَّ هذا الوضع حتى منتصف السبعينيات، وكنت أعود إلى دمشق كلّ سنة في الصيف، ولكن، منذ 1976، لم يعد بإمكاني العودة، إذ إنّي شاركت مع بعض الأصدقاء السوريّين واللبنانيّين والفلسطينيّين في الاحتجاجات على دخول الجيش السوري إلى لبنان، وتظاهرنا أمام السفارة السورية في باريس، ووقعنا العرائض، فصدرَ قرارٌ بعدم تجديد جواز سفري، وباعتقالي حال وصولي إلى الحدود السوريّة.
لم أعد إذاً قادراً على القيام ولو بزيارة بسيطة إلى سورية، وشعرت للمرّة الأولى بأنني منفيّ، وعانيت ما كنت أسمعه من غيري عن الحنين إلى الوطن.
لم يخطر ببالي أبداً أن أطلب الجنسيّة الفرنسيّة بالرغم من أنّي كنت موظّفاً في مؤسّسة ثقافيّة فرنسيّة رسميّة، هي مكتبة معهد اللغات الشرقيّة، ولي عنوانٌ ثابت، وأسدّد ضرائبي بانتظام. قرّرت أن أطلبها في 1981 لأنّني كنت لا أستطيع مغادرة فرنسا إلى أي مكان، وكنت أتوق بصورةٍ خاصّة، تعويضاً عن حرماني من العودة إلى سورية، إلى زيارة بعض البلدان العربية، وهكذا نِلتُ الجنسية الفرنسية في أواخر 1982.
- ربما لهذا السبب تصف نفسك بأنك عربيٌ فرنسي.
*سوريٌ وعربيٌ وفرنسيٌ بالأحرى! لكن دعني أكمل القصّة! حتّى 1982، حين تسلّمت الجواز الفرنسي، كانت قد مرّت عليّ كما قلت خمس أو ست سنوات لم أتمكّن فيها من مغادرة فرنسا، وفي هذه السنوات استكشفت فرنسا بعمق، من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب. كانت الإجازات في المكتبة طويلة، مثل إجازات الجامعات، وكنت أستغلها للسياحة في فرنسا. بدءاً من 1982، وعلى مدى أربع أو خمس سنوات، صرت أسافرُ كلّ سنةٍ في الشتاء إلى مصر، وفي الصيف إلى تونس. كنت متعطّشاً إلى سماع الناس وهم يتكلّمون اللغة العربيّة.
- جددت بهذه الطريقة صلتك بالعالم العربي.
* تماماً.
- ما الذي أتى بك، وأنتَ المثقف اليساري الملتزم، إلى كتابات عن المطبخ والحمص، وهو ما لا يمكن تصوره من جيلك من المثقفين والكُتاب اليساريين؟
*دفعتني إلى الكتابة عن الغذاء والطبخ ثلاثة دوافع، وأوّلها من دون شكّ أنّي أُحبّ بطني! أعرف أنّ كلّ الذين واللواتي يُحبّون بطنهم لا يكتبون عن الطعام، ولكنّ كلّ الذين واللواتي يكتبون عن الطعام يُحبّون بطونهم! الدافع الثاني هو أنّ رئيس معهد العالم العربي في بداية التسعينيات، إدغار بيزاني، كان يبحثُ عن شخصٍ يكتب مقالةً في مجلّة المعهد، «قنطرة»، عن الطعام العربي فتنطّعت للمهمّة، وتَبِعت المقالة مقالات، واقتضى ذلك منّي، منذ البداية، أن أقرأ عشرات المراجع، من كتب الطبيخ والزراعة والطبّ والأدب العربيّة القديمة، إلى الدراسات الغربيّة عن تاريخ الأغذية وإعدادها وآداب المائدة في العالم. وهكذا صار ما كان مجرّد مزحةٍ أحد اهتماماتي الثابتة، لأنّني أدركت، وهذا هو الدافع الثالث، أنّ تاريخ الطعام جانبٌ أساسيّ من تاريخ الحضارة الماديّة، وأنّ سيرة حبّة الحمّص أهمّ من سير كثيرٍ من الملوك والرؤساء! ومن غريب المصادفات أنَّ جاري في البناية، وفي الطابق نفسه، كان من كبار المؤرّخين الفرنسيّين المختصّين بما يُسمّى «تاريخ العقليّات»، وقد اشتهر بكتبه عن تاريخ العلاقات الجنسيّة في الريف في عصر النهضة، وعن تاريخ الطعام في العصر الوسيط. سعدت جدّاً حين طلب منّي أن أكتب له إهداءً على كتابه المُطوّل في الحمّص.
- يبدو أنه عندك قضيّتان أبرز من غيرهما، القضية الفلسطينية والقضية السوريّة. كيف ترى الوضع في ظل الفلسطنة الرهيبة للسوريين، والضياع الفلسطيني؟
*لم تحظَ القضيّة الفلسطينيّة في تاريخها بدعمٍ شعبيٍّ في العالم كالدعم الذي تحظى به اليوم، وثمّة إقرارٌ من قبل «المجتمع الدولي» بأنّ للفلسطينيّين حقوقاً وطنيّةً مشروعة، بما فيها الحقّ بإقامة دولةٍ مستقلّة في الأراضي التي احتلّتها إسرائيل في حزيران 1967. وفي الوقت نفسه، صار انتزاع هذه الحقوق أصعب من ذي قبل، بل شبه مستحيل، بسبب سياسة الأمر الواقع التي تتَّبِعها إسرائيل بابتلاع الضفّة الغربيّة لقمةً بعد لقمة، وبسبب الانقسام السياسي والجغرافي الفلسطيني، واختلال ميزان القوّة على الأرض وفي المنطقة وفي العالم. أغلب الفلسطينيّين على ما أعتقد لا يأملون شيئاً من المفاوضات مع إسرائيل، ولا من مغامرات حماس العسكريّة. وأغلبهم مقتنعون بأنّ السلطتين القائمتين تحولانِ دون بلورة استراتيجيّةٍ عمليّةٍ لمقاومة الاحتلال والاستيطان. المسألة المطروحة منذ نحو عشر سنوات هي: هل بقيت إمكانيّة ما، ولو ضعيفة، للحلّ المعروف بحلّ الدولتين، بعد أن جعلت إسرائيل من الضفّة الغربيّة أرخبيلاً من الجزر المحاطة بالمستعمرات والطرق الالتفافيّة والحواجز؟ وقد احتدم الجدل حول هذه المسألة، وسُوِّدت مئات الصفحات لاستكشاف حلٍّ بديل يُمكن تعبئة جميع مكوّنات الشعب الفلسطينيّ حوله، في الداخل وفي الشتات، كحلّ الدولة الواحدة الديموقراطيّة العلمانيّة، أو حلّ الدولة ثنائية القوميّة، دون أن يُسفر السجال عن أيّ مشروعٍ سياسي مقنع. فبالإضافة إلى أنّ كلا الحلّين أصعب منالاً في الواقع من دولةٍ فلسطينيّة مستقلّة في الضفّة وغزّة، يبدو لي أنّ الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة لا تستطيع التخلّي عن مطلب الاستقلال، لأنّه المطلب الطبيعيّ لأيّة حركة وطنيّة، ولأنّ الشعب الفلسطيني انتزع اعترافاً دوليّاً بشرعيّته، وبالتالي بلاشرعيّة الاحتلال.
ثمَّ، ألا يعني التخلّي عنه والمطالبة بدولةٍ واحدة لجميع سكّانها الإسرائيليّين والفلسطينيّين، وذلك بحجّة وجود المستوطنات، قبولاً ضمنيّاً بوجودها؟ ولنفترضْ أنّ الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة تحوّلت بقدرة قادر من حركة تحرّر وطنيّ ضدّ الاحتلال، إلى حركة حقوق مدنيّة ضدّ التمييز العنصريّ، هل يُعقل أن يقبل الإسرائيليّون الاندماج مع الفلسطينيّين في دولةٍ واحدة ليست لهم فيها الأغلبيّة العدديّة والأولويّة القانونيّة؟ وإذا كان الحلُّ دولةً ثنائيّة القوميّة، ألا يقتضي ذلك اعترافاً مسبقاً من إحدى القوميّتين بحقوق القوميّة الأخرى كاملةً، وأوّلها حقّ تقرير المصير، وأين إسرائيل من اعترافٍ كهذا؟
لا خيار للفلسطينيّين على كلّ حال، في ظلّ علاقة القوى القائمة في المنطقة وفي العالم، إلا المقاومة بجميع الأساليب السلميّة والتمسّك بحق تقرير المصير والاستقلال في دولةٍ ذات سيادة، حتّى إذا كان الأفق البعيد دولةً ثنائيّة القوميّة.
- وحماس؟ وصواريخ القسام؟
*حماس في مأزق. حماس محاصرةٌ من كلّ الجهات، مضطرّةٌ لمهادنة إسرائيل والإذعان لشروطها حتّى تستمرّ في حكم 300 كيلومتر مربّع من فلسطين. وحماس، حتّى حماس، ليست بمنجاةٍ من داعش!
- وماذا الآن عن قضيتك السورية؟
*قضيّتي السورية هي القضيّةَ! كلّ ما جرى ويجري في سورية خارقٌ للمألوف: شجاعة السوريّين العاديّين وصمودهم، عمق مأساتهم الإنسانيّة وحجمها، عزلتهم السياسيّة، نذالة حكّامهم، غزوات الجهاديّين في بلادهم، وسفاهة معارضتهم الرسميّة. سيأتي يومٌ يكتشف فيه العالم هول ما تعرّضت له سورية من جرائم، ويُضطرّ إلى الاعتراف بحقارته.
وقضيّتي السوريّة مسدودة الأفق إلى حين. لا داعي للتطويل في عرض المعطيات: بعد أكثر من أربع سنين على اندلاع الثورة في ظروفٍ محليةٍ وإقليميّة ودوليّة معاكسة، وغياب قيادةٍ ثوريّة، وعسكرةٍ عشوائية، وأسلمةٍ جهاديّة جرّت عليها الويلات، لم تستطع حتّى الآن، ولن تستطيع في المستقبل القريب، أيّة قوّة من القوى العسكريّة الفاعلة على الأرض حسم الموقف لصالحها. ولذلك يكثر الكلام في هذه الأيّام عن التقسيم، باتفاقٍ ما بين رعاة هذه القوى أو بالأمر الواقع. إلا أنّ التقسيم نفسه، إذا ما تمّ، لا يُمكن أن يدوم طويلاً لأنّ المناطق التي يُسيطر عليها الجيش أو داعش أو النصرة أو غيرها من الجماعات المسلّحة، غيرُ متجانسة، لا سياسيّاً ولا طائفيّاً، إذا افترضنا أنّ التقسيم سيكون على أساس أحد هذين المعيارين. ما هي المقوّمات السياسيّة أو الطائفيّة الثابتة لدولةٍ تضمّ العاصمة والقلمون والساحل؟ وما مصير باقي البلاد الموزّع اليوم بين قوى تنتمي للثورة، وأُخرى للثورة المضادّة؟ لعلّ المنطقة الوحيدة التي يُمكن أن تنتزع في المستقبل شكلاً من أشكال الحكم الذاتي، بغضّ النظر عن التقسيم أو عدمه، هي المنطقة ذات الأغلبيّة الكرديّة، وهذا حقّ، ولكنّه حقّ مشروطٌ باحترام حقوق السكّان غير الأكراد، ومرهونٌ إلى حدٍّ بعيد بتطوّر العلاقات بين دول الإقليم.
لنعترف إذاً أنّ سورية أفلتت من أيدي السوريّين جميعاً، وأن سفك الدماء لن يتوقّف من دون تدخلٍ دوليّ حاسم، وليس في الأفق حتّى هذه الساعة ما يُبشّر به. كنت أستبعد التدخّل الدولي ضدّ النظام حين كان الناس يتناوشون بشأنه بين مؤيدٍ ومعارض كما لو أنّه محتوم. وحتّى بعد المجزرة الكيماويّة والتهديدات الغربيّة بالتدخّل، لم أصدّق أنّ أوباما سيخطو خطوةً من هذا النوع في الوقت الذي كان يستعجل فيه الانسحاب من الشرق الأوسط. ومع ذلك، بسبب هذه المجزرة، وبسبب الاتّفاق الأميركي - الروسي الذي منح العصابة الحاكمة الحقّ في تجاوز جميع الخطوط الحمراء، وبسبب بدء امتداد داعش الذي تزامن مع هذه الأحداث، صرت أرى (غصباً عنّي في الحقيقة) أن لا خلاص لسورية، كياناً ودولةً وشعباً، من دون شكلٍ ما من أشكال الوصاية الدوليّة تهيئُ الظروف للسلم الأهلي ولمرحلةٍ انتقاليّة طويلة نسبياً لا تقلّ عن ثلاث سنوات، يتمّ بعدها انتخاب جمعيّة تأسيسيّة. ولن يحصل ذلك إلا إذا اقتنعت القوى الدوليّة بأن الوضع في سورية يُهدّد مصالحها في المنطقة. هل يُمكن تصوّر مخرجٍ آخر، والوضع كما هو في البلاد، حتّى إذا قُتِلَ غداً بشّار الأسد أو عُزل أو تنحّى؟
ماذا نريد لسورية بعد الأسد؟ اسألْ المعارضين الديمقراطيّين بعد أكثر من أربع سنين على اندلاع الثورة، وسيُجيبون بصوتٍ واحد: نريد نظاماً تعدّديّاً مدنيّاً لا يُميّز بين المواطنين على أساس الطائفة أو الجنس. حسناً، وماذا بعد؟ كيف نلمّ شمل هذا الشعب المنكوب؟ كيف نبني جيشاً وطنيّاً جديداً وأجهزةً أمنيّة جديدة؟ ما هي معالم جُمهوريّتنا المنشودة من الناحية الدستوريّة؟ كيف سَيُفصلُ فيها عمليّاً بين الدين والدولة؟ ما هو الحلّ المناسب للمسألة الطائفية؟
محاصصة على الطريقة اللبنانية؟
أتساءل أحياناً عمّا إذا لم يكن من الحكمة، بالنظر إلى الاحتقان الطائفي، أن نكفَّ عن التكاذب وعن التحايل على واقعنا، وأن نعترف بوجود مسألةٍ طائفيّة ونُفكّر بحلولٍ عمليّة لها. هل يكمن الحلّ في مجلس تمثيلي للأقلّيّات الطائفية يختاره أبناؤها؟ هل الحلّ مجلس شيوخٍ إلى جانب المجلس النيابي المنتخب بالاقتراع العام النسبيّ على مستوى الجُمهوريّة أو المحافظة؟ هل الحلّ نظامٌ إداري وليس مركزيا؟ ألا تؤدّي هذه الحلول إلى تعميق الهوّة بين المواطنين بدلاً من تضييقها وردمها؟ ما الحلّ إذاً؟ هذه المسألة عويصة، وكلّ مسائلنا عويصة، وإذا لم يطرحها الديمقراطيّون بصراحةٍ للمناقشة الحرّة فمن يطرحها؟ وإذا لم يطرحوها الآن فمتى؟ نُشِرَت في 2011 و2012 نصوصٌ مفيدة تتضمّن اقتراحات ملموسة بصدد عدّة أمور مُهمّة، ولكن سرعان ما طويت وانتهى أمرها تحت وطأة الأحداث المتسارعة، وخيبات الأمل المتكرّرة. نحن بحاجةٍ ماسّة إلى عملٍ فكريّ جماعيّ عن ماضي سورية وحاضرها، ونفتقر بصورةٍ خاصّة إلى الدراسات الاجتماعيّة والاستطلاعات الحيّة، ولكنّ مثقّفينا مشغولون إجمالاً بالمماحكة «السياسويّة» أو، في أحسن الأحوال، بالتحليل الاستراتيجي اليومي وتخيّل سيناريوهات ما أنزل الله بها من سلطان انطلاقاً من كلمة قالها كيري أو ديميستورا، وغالباً ما لا تعني شيئاً.
هذه رياضةٌ مارسها كثيرٌ من اللبنانيّين خلال ستة عشر عاماً من الحروب الأهليّة وغير الأهليّة، واستمتع بها أيضاً باحثو بعض مراكز الدراسات الفلسطينيّة بعد اتفاقيّات أوسلو، فبنوا سيناريوهات لا تُعدّ ولا تُحصى ثبتَ بعد مدةٍ قليلةٍ من نشرها أنّها خاطئة كلّها، ما لم يمنعهم من المثابرة عليها من دون كللٍ ولا ملل!
- تعثرت الثورات العربية كثيراً، ويبدو العالم العربي بعد موسم الثورات أكثر فقداناً للوجهة والمشروع، مُستباحاً لخارجيّين متنوعين، وأقل شأناً مما كان. ماذا جرى؟ أين الخطأ؟
*هل كان العالم العربي ذا شأنٍ قبل الثورات؟ ألم يكن مستباحاً من قبل الغُرباء، ومن قبل حكّامه وطبقاته السائدة؟ حين تسمع القائلين إنّ الثورات مؤامرة امبرياليّة خبيثة يُخيّل لك أنّ الشعوب العربيّة كانت في نعيمٍ مقيم، وأنّها كانت مضرب المثل في الاستقلال الوطني والتقدّم الاقتصادي والثقافي والعلمي.
لم يكن في العالم كلّه منطقة تجمّعت فيها أسباب الثورة كالعالم العربيّ. أين تجد رؤوساً مثل التي كنّا نراها في اجتماعات القمّة العربيّة، وما يُمثّله كلٌ منها، وما تُمثّله مجتمعةً، من استهتارٍ وطغيان وانحطاط؟
ثارت الشعوب العربيّة تحت شعارات بسيطة جدّاً، وعميقة جدّاً في مدلولاتها (حريّة، كرامة، عدالة اجتماعيّة).
ثارت من دون قيادةٍ ثوريّة تملك برنامجاً يُفسّر هذه الشعارات، واستراتيجيّة واضحة لبلوغ الهدف، وخبرةٍ في المناورة وإدارة التحالفات.
وتعرّضت في أثناء ثورتها إلى ما تعرّضت له جميع الثورات في التاريخ، كلّ بلدٍ بحسب طبيعة مؤسّساته وتكوينه الاجتماعي وتقاليد الطبقات المنخرطة في الثورة، وبحسب الأحداث الطارئة التي ليس باستطاعة أحد أن يتنبّأ بها، ويُمكن أن تُسرّع مسيرة الثورة أو تبطّئها أو تحرفها عن مجراها. أين الخطأ إذاً؟ ليس الخطأ حتماً في الثورة على أنظمة بن علي ومبارك والقذّافي وعلي عبد الله صالح وبشّار الأسد وملك البحرين. وليس في خروج المتظاهرين من الجوامع، ولا في الكفاح المسلّح بحدّ ذاته، ولا في التوقيت (على فكرة، لا تأتي الثورات في موعدها، كما يقول العمّ ماركس، بل تأتي دائماً متقدّمةً أو متأخّرة، ما ينفي عنه تهمة الإيمان الأعمى بالحتميّة التاريخيّة!). ربّما كان الخطأ في الاعتقاد بأنّ الثورة تسيرُ على خطٍّ مستقيم، وبأنْ لا رجوع إلى الوراء بعد تحقيقها أولى انتصاراتها، ولا تقدّم إلى الأمام بعد انتصار الثورة المضادة.
- حين تنظر إلى حال الثقافة والمثقفين في سورية والمحيط العربي، ماذا ترى؟ وأيّ معنىً للرابطة العربية اليوم؟
*سأبدأ بالشقّ الثاني من السؤال. موضوع الرابطة العربيّة والعروبة موضوع سجال دائم بيني وبين كثيرٍ من الأصدقاء. ثمّة عروبةٌ عقائدية نشأت مشوهة في رحم الفكر القومي الألماني، وتنطلق من المفهوم اللغوي للأمّة، أي أنّ ما يُحّدد وجود الأمّة أو عدم وجودها هو وحدة اللغة، ولذلك، يقولون، إنّ الأمّة العربيّة موجودةٌ منذ ما قبل الإسلام، وإنّها تضمُّ جميع الناطقين بالعربيّة من العرب، ومن الذين تعرّبت لغتهم عبر التاريخ.
ولمّا كان لكلِّ أمّة دولة، فقد كان للعرب دولتهم، وكان لها عصرٌ ذهبي، ثمّ جاء الاستعمار ومزّقها إلى دويلات.
لقد رُبيَت أجيالٌ من الناس في بلادنا على هذه «النظريّة» التي تنقضها وقائع التاريخ، وعلى خزعبلاتٍ مماثلة تمسّ التاريخ العربي - الإسلامي برمّته، إلى أن أدّت الكوارث المتلاحقة التي حلّت بنا، وأغلبها على يد قوميّين عروبيّين، بالاسم على الأقلّ، تسلّطوا على هذه الدويلات وحكموها بالبسطار، إلى «شرشحتها» في نظر الشعوب العربيّة، فلفظت أنفاسها الأخيرة غير مأسوفٍ عليها. جَنَحَ منذ ذلك أغلب المثقفين من الذين كانوا يدينون بها، إمّا إلى عصبيةٍ قديمةٍ أو جديدة من العصبيّات المحلّية، وإمّا إلى الإسلام السياسي، وإمّا إلى… لا شيء.
- هل ينبغي، بحجّة التميز عن العقيدة إيّاها، نفي الرابطة العربيّة، هل ينبغي اعتبارها وهماً ضارّاً لا غير، كما يقول بعض الأصدقاء الليبيراليّين الجدد، وما الفائدة التي نجنيها من نفيها؟
*منذ أواخر القرن التاسع عشر على الأقلّ، أي منذ تخلخل الرابطة الإمبراطوريّة العثمانيّة، بقيت العروبة عنصراً ثابتاً من عناصر الهويّات الفرديّة والجمعيّة في كلّ البلدان الناطقة باللغة العربية، أستثني من ذلك بطبيعة الحال الأقلّيات غير العربيّة، قد يبرز هذا العنصر أو يضمر، حسبَ الظروف السياسيّة، ولكنّه حقيقةٌ واقعة حتّى إذا أنكرها أو قلّل من شأنها بعض المفجوعين بحالتها الراهنة. وبفضل هذه الحقيقة الواقعة، مارست الحركات الوطنيّة الاستقلاليّة، بقيادة «الأعيان» الذين تكلّمنا عنهم، أنواعاً عدّة من العروبة «العملية»، إذا صحّ التعبير، بالرغم من التناقضات السياسيّة فيما بينها في أكثر من مرحلةٍ من تاريخها.
ولعلّ المفارقة الكبرى في الحياة العربية المعاصرة، أنّ التشرذم السياسي الذي بلغ حدّاً مأساوياً في السنين الثلاثين الأخيرة، لم يحلْ دون تكوّن حقلٍ ثقافيّ عربيّ موحّد، يمتدّ بالفعل من المحيط إلى الخليج على نحوٍ غير مسبوق، ويشمل بفضل وسائل الاتّصال الحديثة ثقافة النُخب والثقافة الشعبيّة على السواء.
لقد انطلق القوميّون العرب من فكرةٍ قاصرة، مفادها أنّ الأمّة العربية تركةٌ جاهزة ورثناها عن عصرٍ ذهبي.
أعتقد، على النقيض من ذلك، أنّها مشروعٌ مؤجّل يقتضي تنفيذه بناء دولٍ ومجتمعات عصريّة تتعاون وتتقارب وتتوحّد تدريجياً، على غرارِ ما شرع فيه الأوروبيون في أواخر الخمسينيات، على أساسٍ ملموسٍ من المصالح المشتركة. لا تُبنى الأمم على أيّ أساسٍ آخر.
لن أتكلّم، للإجابة عن الشقّ الأوّل من السؤال، عمّا أراه إيجابيّاً أو سلبيّاً في النتاج الثقافي العربي الحالي، ولا أظنّ أنّ هذا هو المطلوب. ما يحتاج إلى بحثٍ ومناقشةٍ بيننا هو العقليّة المستحكمة بالمثقّفين العرب، وأعني بهم، المعنيّين بقضايا سياسيّة واجتماعيّة وثقافيّة خارج نطاق اختصاصاتهم الضيقة.
هؤلاء، خصوصاً أكثرهم تشدّقاً بالحداثة، قلّما يُفكّرون بموضوعيّة وتجرّد، إمّا لارتباطهم بطوائفهم أو بالدولة «العميقة» أو بمن يوفّر لهم رزقهم، وإمّا لأنّ بضاعتهم الفكريّة لا تتعدّى بعض الثنائيّات التبسيطيّة العاجزة عن الإحاطة بتعقيدات الواقع، من نمط «الأصالة أو المعاصرة» و«الشرق أو الغرب» و«الإسلام هو الحلّ أو الإسلام هو السبب». ولذلك تراهم يتّخذون مواقف مُخزيةً من الأحداث في بلادهم وخارجها، ويُبرّرونها باعتباراتٍ واهية. حداثتهم كاذبة، وديمقراطيّتهم كاذبة، وعلمانيّتهم كاذبة.