تاريخ النشر: 25 آب 2015

تجربة عالمية الابتكار فلسطينية الإحساس معهد إدوارد سعيد الوطني للموسيقى.. النموذج الأول

بجعل الموسيقى حالة إنسانية تدفعُ بمن يحملها إلى رؤية الخيال كائناً حيّاً يتحرك كمن يمشي على الغيم، وبطموح الكفيف أن يفهم الألوان يسعى الموسيقي ليسمع اللحن كلاماً فوق إعجاز الكلام، هي الموسيقى التي تودي بصاحبها كلما اقترب منها أكثر، كأنها غاوية تلعن صانعها بالجمال، فيرى كل حركات الشجر لحناً، ويرى صوت الريح ناياً، ويعرف أن أجمل ما صنعته البشرية يوماً هو الموسيقى، حيث فهم كل الناس كلامها، وبقيت هي وحدها لا تفهم ما يقال.
ولأننا نحن الذين نعرفُ أن الموسيقى هي التي تحملنا فوق حفر الأرض، لنصير نارها ونصير في لحظة أخرى دخاناً يفتتهُ المقام والسلمَ الذي يصعد بالحالمين إلى عتبات المنام.
نعرفُ جيداً أننا يمكننا أن نقترب من نهاية كل شيء إلا  الموسيقى وحدها وما حولها تبقينا دوماً في حيرة من أمرنا عما هو جديد وما سيكون، وفي كل مرة نسأل ما كان، فقد عرف خمسة موسيقيين فلسطينيين أن لفلسطين لغة أخرى لم يفتحها أحد وبقيت مطاردة في كل ما هو مسروق من حولها، فقد قاموا بإنشاء المعهد الوطني الموسيقى في العام 1994 بعد أن تبنت جامعة بيرزيت هذةه المبادة، والتي تحولت في العام 2004 إلى معهد إدوارد سعيد الوطني للموسيقى.
معهد إدوارد سعيد الوطني للموسيقى والذي أنتج هوية موسيقية فلسطينية أو أعاد تكوين القديمة، بحيث عادت للفلسطيني موسيقاه وتجربته الموسيقية الحقيقية بعد تدمير وقطع التجربة في العام 1948، ولم ينتج المعهد هذه الهوية فقط بل أسس وأشعل حالة إبداعية من خلال تخريج وتأهيل مجموعة من الموسيقيين الفلسطينيين الذين أصبحوا اليوم من أهم موسيقيي العالم بعدما عرفوا أنه مهما كبرت وتوسعت آفاق الموسيقى ستظل الموسيقى الخاصة بنا مجروحة التجربة دوماً، وفي أعلى سلمها دمعة وسؤال.
قاد أمين ناصر المعهد في بداية عمره حيث كان البيانو الآلة الوحيدة التي يتعلمها 40 طفلاً، إلى حين تسلم الموسيقي سهيل خوري إدارة المعهد وانتقل به من كونه معهداً بسيط القدرات إلى أهم وأكبر مصدر إنتاج موسيقي على الصعيد الإبداعي والبشري في فلسطين من خلال إدخال آلات موسيقية شرقية وتطوير الغربي منها، وإدخال برامج ومساقات تعليمية حيث يتعلم الآن في المعهد أكثر من 900 شاب وشابة من مختلف المناطق، ممتدة من القدس ورام الله ونابلس وغزة وبيت لحم وقريباً في الخليل وأريحا، بالإضافة إلى إنتاج أعمال فنية موسيقية ومسرحية على أعلى المستويات الإبداعية.
يعمل معهد إدوارد سعيد الوطني للموسيقى ضمن منهجية أكاديمية دقيقة جداً تفصل بين النظامي والهاوي، بحيث يعبر كل من هو راغب بإحدى المجالين حسب ما يراه مناسباً ضمن رؤية المعهد من جانب ورؤية الفرد من جانب آخر، حيث يعبر في البرنامج النظامي ثلاث مستويات تعمل على إدخال الطالب في حالة جدية من العمل و ضرورة للإبداع من خلال مستوى تحضيري ومستوى أساسي ومتوسط، وبها يعمل الطالب وعبر 8 مستويات تعليمية على إدراك الثقافة الموسيقية العامة بالإضافة لنظريات الموسيقى إلى جانب التدريب العملي على آلات موسيقية شرقية وغربية، بحيث يكون الطالب موسيقياً مبدعاً في الابتكار والاستماع في آن واحد.
ولقد أثبتت هذه الآلية وبدرجة عالية من الدقة قدرتها على تخريج مجموعة من الموسيقيين المبدعين والذين أكملوا مسيرتهم الفنية في فلسطين والعالم، وأصبح لديهم الآن إنتاجهم وأعمالهم الخاصة، متمسكين بتجربة المعهد في تفسير كل ما هو مسموع وتحليل جدي وعقلاني نابع من ثقافة موسيقية واسعة على المستوى الشرقي والغربي، فاتحة النافذة نحو ابتكارات جديدة في الموسيقى العالمية، وفي ذات الوقت يبقى البرنامج الخاص بالهواة والذي لا يلغي ضرورة العمل الجاد، باباً إلى من هم راغبين بالتعلم أو من لديهم القدرة على تعلم عام حول الموسيقى.
ولم يضع المعهد قضية الوصول إلى مقرات المعهد عائقاً أمام من هم في رغبة جادة أو موهبة كامنة لتعلم الموسيقى، حيث بدأ في العام 1996 برنامج التعليم الخارجي، بهدف الوصول إلى كافة طبقات وتجمعات المجتمع الفلسطيني في الضفة الغربية، من خلال إرسال أساتذة المعهد إلى بعض المراكز والأندية والمدارس في المخيمات بالإضافة للقرى والبلدات الأقل حظاً في الحصول على فرصة لتعلم الموسيقى من جانب والتعرض لحياة ثقافية عامة من جانب آخر، وقد اكتشف أساتذة المعهد في جولاتهم العديد من المواهب التي كانت في انتظار الفرصة الجيدة، والذين أصبحوا اليوم أساتذة أو موسيقيين محترفين في فلسطين والعالم، وهذا الأمر الذي سمح للمعهد لاحقاً أن يؤسس فروع له في المناطق والتي كان يعمل بها من خلال تطوير  وتدريب جدي لمن هم من ذات البيئة والمكان.
ومن يتابع مسيرة حياة المعهد القصيرة نسبياً مع نظيرتها العربية يدرك أن هذه التجربة ستتخطى وقد تخطت فعلياً العديد من الحواجز والعثرات التي كانت أمامها من خلال وضع خطط واقعية للتنفيذ وطموحة بالفكرة، سواء على مستوى الإنتاج الموسيقي أو التدريب أو التدريس أو حتى على جانب التطور المؤسساتي العام، ويستطيع أيضاً أن يدرك أن مستقبل المعهد هو كلية موسيقى قائمة تقدم أعلى مستوى من التعليم الموسيقي، ورغم قلة الموارد المالية التي يحتاجها المعهد وبشكل مستمر نتيجة النمو والتطور الدائم، فإن المعهد وفي الوقت الذي يعتمد فيه على جزء بسيط في ميزانيته على رسوم الطلبة فإنه يقدم مجموعة من المنح الدراسية للطلبة غير القادرين على تحمل التكاليف العالية نسبياً، إلى جانب تمويل ودعم فلسطيني وعالمي، وفي هذا يضع معهد إدوارد سعيد الوطني للموسيقى حقه في التطور جنباً إلى جنب مع حق الآخرين ممن لا يملكون القدرة المادية أن يكونوا جزءاً من هذه المنظومة الإبداعية.
وللمعهد العديد من الأنشطة والبرامج إلى جانب مسار التعليم الذي يعتبر أساسياً، إلا أن المعهد قام بتأسيس عدد من المجموعات الموسيقية المحترفة والشابة وهي: الأوركسترا الوطنية الفلسطينية والتي تأسست في العام 2010، أوركسترا المعهد وهي خاصة بالطلبة والأساتذة معاً، فرقة المعهد للنفخ والتي تأسست في العام 2005، أوركسترا القدس للناشئين 2005، وأخيراً أوركسترا فلسطين للشباب والتي تأسست في العام 2004 لتكون الجسم الذي يجمع الموسيقيين الفلسطينيين في كل أنحاء العالم والتي تضم اليوم أكثر من 80 موسيقياً فلسطينياً من العالم.
ويعتبر مهرجان الطرب في قدس العرب ومهرجان الربيع من أنشطة المعهد السنوية والتي تطل بمجموعة من الإنتاجات الموسيقية المحلية والعالمية المتنوعة، إلى جانب العديد من الأنشطة التي من شأنها تعزيز الحالة الثقافية العامة في فلسطين والموسيقية بشكل خاص، سواء الصعيد المجتمعي أو الداخلي بتطوير القدرات والتواصل ودعم وإسناد الإبداع داخل المعهد، كمسابقة فلسطين الدولية للموسيقى، ويعتبر المعهد أيضاً من المؤسسات الهامة في تعزيز الشراكات الثقافية حيث إنه عضو في برنامج شبكة الفنون الأدائية الفلسطينية بالإضافة إلى شبكة هائلة من الموسيقيين.

شبكة الفنون الأدائية الفلسطينية