صلاح بوسريف*
لم نَطَّلِع بما يَكْفِي على المشهد الشِّعْريِّ المُعاصِر في فلسطين، خُصوصاً رَاهِن هذا المَشْهَد، وما طَرَأَ عليه من تَحَوّلاتٍ. ثمَّة رُؤيَة نَمَطِيَة ما تزالُ تَحْكُم مَعْرِفَةَ القارِئ العَربِيّ بهذا الشِّعر، وتَحْصُرُهُ في بُعْدِه النِّضَالِيّ، أو ما عُرِفَ بـ«شِعر المُقَاوَمَة»، أو اخْتِصَار هذا الشِّعْر، كاملاً، في شَاعِرَيْن، أو أكثر بقليل.
هذه النَّمَطِيَة، أو الرُّؤيَة الاخْتِزالِيَة في النَّظَر إلى الشِّعر والمعرفةِ عُموماً، هي بين ما يَعُوقُ المعرفةَ بالشِّعر وقراءتَه في ما يَقْتَرِحُه من أفكار ومن أشْكَال، أي في مُنْجَزِه النَّصِيّ، الذي لم يَبْقَ بالضَّرُورَة، هو مُنْجَز السَّابِقِين من «الرُّواد» نفسه، أو مَنْ جاؤوا بعدَهُم.
فثمَّة الكثير من المُتَغَيِّرات التي حَدثَتْ في مفهوم الشِّعر ذاتِه، وفي المعرفة الشِّعرية، ولم يَعُد الشِّعر يعيش على النِّقاشاتِ والكِتاباتِ المَغْلُوطة، التي اخْتَزَلت الشِّعْر في الصِّراع بين «الشِّعر» الذي يُقْصَد به «الوزن» أو «النَّظْم» تحديداً، وبين «النثر»، الذي بَقِيَ، في نَظَر الشَّعراء العرب القُدَامَى، وحتَّى الحَدِيثِين، ممن اكْتَفَوْا بالمِعيار دون غيره، خارِجَ «القصيدة».
هذا المفهوم الذي هو اليوم، بين المفَاهِيم الأكثر الْتِباساً وتشَوُّشاً، ولم نُفَكِّر بعدُ في نقده، ولا في مُراجعةِ ما يَجُرُّه خلفَه من تَبِعاتٍ.
«القَصِيدة»، هي «البَيْت»، وهي «الشَّطْر»، و«الوزن» في صورَتِه الكمِّيَة، و«القافية»، وما يَحْكُمُ بنيتَها من تَوَازٍ وتَقَابُل، وهي الشَّفَاهَة والإنشادُ.
فيما الشِّعر، الذي هو أكبر من «القصيدة» ويتجاوَزُها، وهو كَثْرَة، وليس جَمْعاً، لـ«القصيدة»، ولا هي مفرده، هو خُرُوج عن هذه البِنْيَة، وتَوَسُّعٌ في المفهوم، وفي علاقة الشِّعر بالنثر، أو بما نَعْتَبِرُه نثْراً في الشِّعر. التَّشَظِيّ، وتَفْتِيت المعنى، أو تَشْتِيتِه، وتوسيع الدَّوالّ النَّصًّيَة، وتقَاطُع الأجناس، أو الأنواع الكتابية، وَفتْح النَّص على مجهولاتِ الكِتابَة، وعلى تَشَعُّبَاتِها، هي إحْدى خَصائِص الشِّعر اليوم، الذي باتَ، عند عدد من الشُّعراء العرب المُعاصِرِين، يميل إلى الكِتابة، أو إلى العمل الذي يَسْتَغْرِق الكِتاب كَامِلاً، أو هو بناءٌ نَصِّيّ واحِد، يستغرقُ كُل دَوالِّ النَّصِّ، ويَسْتَحِثُّها، بدون التنازُل عن شِعْرية النَّصّ، أو سياقه الشِّعْرِيّ الجمالِيّ.
يأْخُذُنِي هذا التّقْدِيم، إلى تجربة شاعِرٍ فلسطينيّ، آخَر، هو عامر بدران، في ديوانه الصَّادِر سنة 2014 عن «المؤسسة العربية للدراسات والنشر». لا أدَّعِي أنَّ هذا الديوان «كِتابةً» بالمعنى الذي أشَرْتُ إليه سابقاً، ولا أدَّعِي أنَّه يجري، في اقتراحِه الشِّعْرِيّ الجَمالِيّ، في سياق «النَّظْم» أو «القصيدة»، في صورتها الماضوية ـ التقليدية. لكن، قِراءةَ الدِّيوان، بنوع من الإنْصاتِ والتَّأَنِّيّ والتَّأَمُّل، تَسْمَحُ لَنا بإدْراك طبيعة البنية التي تَحْكُم السِّياق الشِّعريّ الجمالي، وهي بِنْيَة المُزَاوَجَة، أو المُرَاوَحَة، بين «القصيدة» و «الكتابة»، أو الشِّعْر، إذا شِئْنا توسيع المفهوم والنَّصّ معاً.
لا أعرف مَصْدَرَ هذه البنية في ثَقافَة الشَّاعِر، ولا في تكوينه الشِّعري، أو في معرفته بالشِّعر، فهو بخِلاف بعض مُجايِلِيه، من الشُّعراء الفلسطِينِيِّين الذين يبدو الماضي في شعرهم غائباً، أو لا حُضورَ له البَتةَ في كتاباتهم، وفي تجاربهم، يبدو مُتَأثِراً بالشِّعر القديم، أي ببنياتِ «القصيدة»، أو ببعض خَوَاصِّها الصَّوْتِيَة أو الإيقاعية، بالأحرى، بعكس خَواصِّها اللِّسانيَة، التي تبدو غائِبَةً بشكل كُلِّيٍّ وكامِل؛ لأنَّ السِّجِلّ اللغوي، أو المفردات والتَّعابِير التي يستعملها عامر بدران، بما فيها الصُّوَر، في تركيباتِها المَجازية، هي مفرداتٌ وتَعابِير حَداثِيَة بامتياز، وتَخْرَقُ بنية اللغة في مستواها الدَّلالي، الذي يُتِيح إدْراك العلاقة بين الدَّالّ والمدْلول بدون عَنَتٍ.
هذه إحْدَى مُفارَقَات تجربة عامر بدران الشِّعرية، في هذا الدِّيوان، لأنَّنِي لم أقرأ غيرَه من دواوين الشَّاعر، وهي مُفارَقَةٌ، في ما يبدو لِي، تَسْمَح بتوظيف بعض مُكَوِّنات «القصيدة»، خصوصاً المُكَوِّن الإيقاعي، المُتَمَثِّل في «الوزن»، وفي صورتِه الصَّوْتِيَة المُتَمَثِّلَة في القافيةِ، رغم ما يجري فيها من تَباعُد، أو تَنْوِيع، وفي تِكرار الصِّيَغ الصرفية، بما في ذلك القَلْب، أو إبدال حرف من الكلمة بغيره، ما يقلب المعْنَى كامِلاً، ويُغَيِّرُه، من مثل «فادِح» و «فاضح»، أو بعض الجُمَل والمقاطع، لِتَجْسِير الهُوَّة بين تَشَظِّي الدَّلالة، الَّتِي هي، في أغلب نصوص الدِّيوان، لا تسيرُ بالمعنى الخَطِّيِّ المُتَواتِر، رغم وجود السَّرد فيها، وبين معيارية التَّلَقِّي التي لم تخرج بعدُ من سياق القصيدة، التي تحرص المدرسَة على تكريسِها، بما فيها قصيدة «الرُّواد» ممن كتبوا ما سُمِّيَ بـ «الشِّعر الحر»، باعتبارها معيار الشِّعر، وميزانُه الذي يُقاسُ به.
المَسافَة بين الخَواصِّ الإيقاعية، والخواصِّ اللِّسانية في الدِّيوان، كبيرة، وهذا ما يجعل من الدِّيوان، في كُلّ نصوصه، مُرَاوَحَة بين سِياقَيْن، لِكُلٍّ منهما تاريخُه الجمالِيّ الخاصّ به.
ما أدْهَشَنِي في هذه المُرَاوَحَة، هو قُدْرَة بدران على تَفادي اسْتدْعاء الخواصّ الإيقاعية، لِخَواصِّها التعبيرية الجمالية، أي مَا ارْتَبَط بها من مفرداتٍ وعباراتٍ وصُوَر، كثيراً ما فَرَضَت نفسَها على الشُّعراء الرُّواد نفسهم، بمن فيهم السياب، الذي بَقِيَ تقليدياً في الكثير من نصوصه، ولم يَسْتَطِع، حتَّى في «أنشودة المطر» الخُروج من بنية «القصيدة»، أو ما سَمَّيْتُه، في كتاب «حداثة الكتابة في الشِّعر العربي المعاصر» بـ «حداثة القصيدة»، تعبيراً عن المُراوَحَة بين القديم والحديث.
ليس من السَّهْل إفراغ الماضي من ماضيه، أو إفراغ بنية مَّا مِنْ إيحاءاتِها، وما تَحْمِلُه في طيَّاتِها من تداعياتٍ، ولا إفراغها من تاريخها الجمالي، أو من السِّياق التاريخي والمعرفي الذيْن ارْتَبَطَتْ بهما، لأنَّ هذا يَتَطَلَّبُ مُراقَبَة للِتَّداعِياتِ الَّتِي يَجُرُّها هذا المُكوِّن خَلْفَه، أو تَفْرِض نفسَها عليه، بحكم العادة.
فبدران، كان، ربما، واعياً بهذه المُراوَحَة، أو هو قَصَدَها للخروج من «النثرية» الفادِحَة، التي بدا أنَّ مَنْ اسْتكانوا لـ«قصيدة النثر»، أو اسْتَسْهلُوها وسَقَطُوا فيها، أو أكَلَتْ الكثير من جمالية تجاربهم، وأفْرَغَتْها من خُصوصيتها الشِّعرية، وهذا، ما فَرَضَ على بدران هذه المُرَاوَحَة التي هي نَوْعٌ من التَّعْوِيض، أو «المُساوَمَة» بتعبير الفنان العراقي ضياء العزاوي.
بالخُروج من الدَّال الإيقاعيّ، أو بالذَّهاب إلى المعنى، ثَمَّة اخْتراقات تجري في النُّصوص، في هذا المستوى بالذَّات، فهناك جُرْأةٌ خارِقَة في توسيع المعنى، وفي تَفْتِيتِه وَتَشْظِيَتِه.
نصوص الدِّيوان، كامِلَةً، محفُوفَة بالشُّقُوق والتَّصَدُّعات، لا وُجود لِفِكْرَةٍ، أو معْنًى خَطِّيٍّ مُتواصِلٍ، يمكن أن يَضَع النَّصَّ في يَدِ القارئ بسهولَةٍ، رُبَّما أنَّ الشَّاعِر رَغِبَ في تَخْلِيص لُغَتِه من ثقْل الجماليات القديمة، خصوصاً في مستوى دوالِّها الصوتية الإنشادية، أو أنَّه رَأَى أنَّ الصُّورَةَ يمكنُها أن تُحْدِثَ الفَرْقَ، بوضع المعنى في مُفْتَرَق انشقاقاتِه، أو ليصيرَ هو نفسُه، بُؤْرَةَ التَّجْرِبَة، باعتبار الشِّعر، ظلَّ دائماً مَحْكوماً بالشَّكْل، والمعنى كان لاَحِقاً عليه، ليس أكثر. لنتذكَّر معَانِيَ الجاحظ المَطْرُوحَة في الطَّريق. عامِر بدران، أحْدَثَ مُنْعَرَجَاتٍ في طريق الجاحظ، وحوَّل الطُّرُق السَّالِكَةَ إلى مَتاهاتٍ، أو إلى ثَمَرةِ جَوْزٍ قاسِيَةٍ، بتعبير الشاعر الفلسطيني زهير أبو شايب، اخْتِراقُها يتطَلَّبُ ذلك القارئ الذي «يأتي من سُلْطَةٍ ما»، أو من قراءاتٍ مُسْبَقَة، جاهزةٍ، ومُعْطاةٍ سَلَفاً، وهي قراءات الجواب، لا السُّؤال، الذي هو بحث، ومَشَقَّةٌ، بمعنى الجرجاني.
إنَّ تجربة بدران الشِّعْريَة، هي تجربة ذات خُصوصِيَة فَارِقَة، في الشِّعر الفلسطيني المُعاصِر، خُصوصاً بين أفراد جيلِه من الشُّعراء الذين اخْتارَ أغلَبُهُم أن يُحَلِّقُوا بِجَناح واحِدٍ، أو بالاكْتِفاء بالصُّورة، أو بالتَّعبيراتِ المجازية التي أصْبَحَت بديلاً عن الدَّال الإيقاعي في التعبير، وفي صياغة المعنى، رغم أنَّنِي، هُنا، أسْتَعمِل كلمة إيقاعٍ بمعنى الصَّوْت، وليس بمفهومها الواسع الذي يَسْتَوْعِب دَوَالَّ صوتية شَتَّى، بما فيها الوحدات الوزنية، من مثل «فعولن» في المُتقارب، أو «فاعلاتن» في الرَّمَل، أو «فاعلن» في المُتَدارَك.
وتجربة بهذا المعنى، هي بَحْثٌ عن شِعرِيَة مُفارِقَة، لكن، بدون التَّخَلِّي عن بعض ما يُذَكِّر بـ«الأصل»، أعني بـ«القصيدة»، أو ببعض مُكوِّناتِها، التي هي من آثارِ الماضي.
مَنْ يقرأ ديوان بدران، سيجد أنَّه، في كثير من اللحظات، كان يُعْلِن عن هذا النُّزُوع بالانفصال عن الآخَرِين، وباختيار المَتاهَة، بدل الطُّرُق التي تَنْتَهِي بِحاجِز، أو بِسَواتِر تَمنع الاستمرار في المَشْيِ، وقَطْع المسافاتِ الطويلة، فبقدر ما يرى في نفسه «طَلْقَةً في الهَواء» لا أثَرَ لَها، بقدر ما كان، رُبَّما يَسْتَشْعِر أنَّ أثر الطَّلْقَة هو الرَّصَاصَة التي يُمْكِن لِلْبَاحثِ في مَكان «الجريمة»، أن يَعْثُرَ عليها، لأنَّ ثَمَّة جاذِبِيَة تُعِيدُ الأشياء إلى مكانها.
وَفْرَةٌ من الصُّوَر والمجازات، وسَعْيٌ لتشقيق اللغة، وتوليد تراكيبَ جديدة، تُخالِف العُرْفَ، ولَعِبٌ باللغة، وبالكلمات، بالمعنَى البَارْثِيّ، نسبة إلى رولان بارث، وهذا في ظَنِّي تمييز لعمل بدران، كشاعرٍ، رغم وُجودِه مع غيره من الشُّعراء المُقِيمين في فلسطين، في مَرْمَى الطَّلَقاتِ، فهو اعتبر الشِّعْرَ، قضية أخرى تُوازي في خُطورتها وجَسَارَتِها، وفي بُعْدِها الرمزي الجمالي، ما يمكن أن تَصْنَعَه صَرْخَة الاحْتِجاج، التي هي تعبير عن رغبة في الوُجود، وفي التَّحرُّر من المَعانِي المُقَيَّدَةِ والمشْرُوطة.
ألَيْس التَّشَظِّي والتَّفْتِيت، وتَشْعِيب الطُّرُق وتَكْثِيرِها، هو نَوْعٌ من الخروج عن هذا المعنى الواحِد النِّهائي والمُغْلَق، الذي لا يسمح بالحَرَكَة وَلَوْ في مَتاهَة، أو في أرْضٍ تُشْبِهُ البَيْضَةَ، لا أوَّلَ، ولا آخِرَ لَها؟ ليس المُهِمّ أن نُجِيبَ، أو نَنْشَغِلَ بالبحث عن أجْوِبَةٍ، فالسؤال، أو قَلَق البحث عن أسئلة، سيظل هو جَوْهَر ما يشغل الشُّعراء، ويَنْأَى بهم عن المَعْرُوف.
* شاعر من المغرب.