يصدر عن «منشورات ضفاف» قريبا
العمل الجديد للزميل الكاتب فاروق وادي سيصل المكتبات قريبا، فاروق وادي الذي أغنى المكتبة العربية عبر عدد من الأعمال الهامة توزعت بين النقد من خلال دراسته « ثلاث علامات في الرواية الفلسطينية» والكتابة السردية في روايتين ومجموعة قصصية وكتابه في السيرة المعنون ب «منازل القلب»، أنهى مؤخرا كتابه «ديك بيروت يؤذن في الظهيرة ــ كتاب الحرب» الذي يصدر عن «منشورات ضفاف»، والذي نختار فيما يلي أحد فصوله.
قدم الكتاب الشاعر والروائي الفلسطيني الكبير ابراهيم نصرالله.
المحرر
تقديم
جذور عميقة، وخيوط لا مرئية كثيرة، وأحلام ومصائر متقاطعة، تسري في عروق هذا الإبداع الجديد للكاتب الفلسطيني فاروق وادي، المُقلِّ، الذي أدهشنا دائما في كلّ ما كتب، بدءًا من مجموعته القصصية: المنفى يا حبيبتي، وروايته: طريق إلى البحر، مرورا بكتابه النقدي: ثلاث علامات في الرواية الفلسطينية، وصولا إلى سيرته الأخّاذة: منازل القلب، وروايتيه: رائحة الصيف وعصفور الشمس، وسواها من الكتابات.
لم ننتظر شيئا، نحن الأصدقاء، أكثر مما انتظرنا أن يفاجئنا فاروق، بنص أدبي جديد، هو المحتشد بأفكار لامعة كثيرة لروايات وحكايات انتهى زمن زهوها لكنها ظلت زاهية، كلما بهتَ ذلك الزمان في أعيننا أعادت له هذه الحكايات ألقه من جديد.
وأخيرا، ولدت: ديك بيروت يؤذن في الظهيرة، في لغتها الأنيقة الدافئة، وعوالمها الغنيّة الواسعة: بشرا وتفاصيل، ومكانا، هو: بيروت، بيروت العصيّة، بيروت الأوسع من نفسها، المترامية في كل من عبرها أو أقام فيها، بيروت المسافرة في كل من سكنها ويسكنها، الساكنة في كل من فارقها.
تتضافر حكايات: ديك بيروت... في افتراقها! مُشكلِّة رواية من نوع مختلف لبيروت وبشرها في أزمنة الحرب؛ عبر بناء فني متماسك، رغم قسوة حالات تفتت الشخوص واستحالة لقائهم. هنا لا تلتقي شخصيات الحكايات، كما لا يلتقي الناس في الحرب إلا بصورة خاطفة، لكنها شخصيات المكان بكل ما يحمله من تشابك وتناقض، كما لو أن الكتابة، هنا، هي الصورة الأبلغ للمدينة وحروبها، والاستجابة المخلِصة لعالم مصاب بالحب وبشهوة الحياة وممزق بهما!
أمام شجرة الأرْز الوحيدة، التي يتكرر حضورها، شاهدة وشهيدة، مظللة الذاكرة والمكان، يستعيد فاروق وادي جمالا ملعونا بطموح كماله، وأنانية تفرُّده!
إبراهيم نصر الله
زمن المراكب الضيِّقة
فاروق وادي
«ليدخل الصيف الآتي من البحر، للبحر وحده سنقول
كم كنّا غرباء في أعياد المدينة»
«ضيِّقة هي المراكب،
وأكثر ضيقاً حدُّك يا جسد الحبيبة الأمين»
(سان جون بيرس)
هبط علينا فجأة في ذلك اليوم الحارّ من أواخر تموز الملتهب، وكان خارج الانتظار، خارج التوقُّع.
لم يكن القصف الذي شهدته بيروت الغربيّة في ذلك النهار قد توقّف. ولا أدري أي دربٍ سلكه الرّجل حتّى اهتدى إلى بيتنا.
قال إنه عمّي.
ولم أكن قد رأيته أو عرفته من قبل!
جاء عمّي الذي ليس عمِّى مُحمّلاً بالهدايا، وها هو يعود أدراجه الآن، مُحبطاً، حزيناً، ومحمّلاً بالخيبة.
***
لم أندهش لأن عمّاً لي، لا أعرفه، كان يقف بالباب إلى جانب حقيبة سفره، ويتهيّأ للدخول إلى بيتٍ يوقن أن بابه لن يُغلق في وجهه، ولن يصدّه مهما بدا ضيِّقاً ولا يتسع لضيوفٍ يأتون من خارج الانتظار.. خارج التوقُّع.
رحّبتُ به، رغم أن أبي كان وحيدَ أهله. لكن الوالد، الذي أحزنه سؤال طفله، عن أخوته الغائبين، الذين من المفترض أن يكونوا أعماماً لي، علّمني منذ الصِّغر، أن كلّ أقاربي من الرجال الكبار هم أعمامي. وبذلك، فقد تكاثر الأعمام في طفولتي وتزاحموا، بحيث أصبحتُ عاجزاً عن تمييز بعضهم عن الآخر!
عمّي، الذي ليس عمّي، لم يكن بحاجة لإذن دخول لبيت ابن أخ له لم تلده أمّه. سبقته كلمة «دَستور» عالية، ودخل.
كان يعرف أنني متزوج حديثاً، وربما لذلك أطلق دَستوره، طويلة وممدودة، حتّى َتتستّر المرأة التي في الداخل، فالعرسان الجدد يستمتعون بالعري. هكذا يعتقد العجائز الذين فقدوا تلك المتعة. ثم اكتشفتُ، بعد قليل، أن الرجل الذي يقول إنه عمِّي، جاء إليّ وهو يعلم علم اليقين أن شقّتي لا تضم سوى غرفة واحدة وصالة، إلى جانب المطبخ الصغير والحمّام الوحيد، وشرفة تطلُّ على رقعة بعيدة، متضائلة، من زرقة البحر. وتحتها مباشرة يقع قصر قديم بحديقته الغنيّة بورودها، والتي تحتضن شجرة أرزٍ كبيرة، قد تكون الوحيدة في بيروت!
بارَك لي العمّ بزواجي. وتحدّث عن الزمن الذي يمرُّ علينا بسرعة:
ـ بالأمس كنتَ صغيراً.. أحملك على ذراعي. وها أنت اليوم أصبحت عريساً!
ذكّرني بطفولتي.. بأحداثٍ أذكرها، وأخرى مُضبّبة، أو غائبة عن ذاكرة فتيّة، ربما ليقطع شكي بيقينِ أنه عمّي. ثمّ شرع يُخرج هداياه: منامة حريريّة رقيقة لي، وقميص نومٍ أحمر شفّاف لزوجتي، يعتقد عمّي الذي ليس عمِّي أنه من لزوم الغواية الأنثويّة. هدايا لم تكن بالنسبة لنا تصلح للاستخدام، حيث كنّا نضطر، في حالاتٍ كثيرة، إلى مغادرة البيت مندفعين بسرعة فائقة عندما يشتد القصف على المنطقة التي نسكنها، لنهبط إلى القبو أسفل العمارة. ولا يُعقل أن ننحشر مع الجيران بمنامة حريريّة وقميص نومٍ فاضح يكشف للملأ عن مفاتن عروس في ريعان عسلها.
والحقيقة أنه جاء محمّلاً بهدايا أخرى. قلم حبر «شيفرز» لي، ونظارة شمس لزوجتي. ولاعة «ديبون» لي، وقرط لزوجتي، ناهيك عن الهدايا التي حملها لنا من إخوتي في الكويت، ومن والدي الذي أعطاه عنواني وقال له إنني، ولا أحد غيري، سيساعده في المهمّة التي جاء بيروت من أجلها.
أضاف الرّجل الذي جاءنا من خارج الانتظار والتوقُّع:
ـ لا تقلقوا بشأن نومي.. فأنا أنام هنا، في الصالة، على هذه الكنبة.
ولم يكن لدينا حلّ آخر، أو اقتراح بديل. أمّا الاعتذار عن عدم القدرة على استقباله، فقد كان خارج البحث أو التفكير!
***
كان علينا أن نرفع أصواتنا للحديث مع عمّي الذي ليس عمّي. فقد ظلّ حريصاً على أن يضع أصابعه حول أذنه ويوجهها نحونا كي يَسمعنا بشكل أفضل. ثم توصلنا، زوجتي وأنا، إلى أنه من الأفضل، له ولنا، أن نُصغي إليه أكثر مما نتكلّم، مع التقليل، ما أمكن، من فتح الحديث معه.
لكنه كان هو الذي يرغب في فتح الحديث. فلم يطل به الوقت ليدخل في صلب المسألة التي جاء من أجلها، فقال متسائلاً:
ـ هل تتذكّر «لولو»؟
حاولتُ أن أتذكّر، فلم أفلح. وعندما أدرَك أنني لا أذكر شيئاً عن صاحبة الاسم، قال:
ـ لولو ابنتي. طبعاً لا تذكرها، فهي أصغر منك بعشر سنوات على الأقل. لم تلعبا معاً ولم تذهبا إلى الروضة يداً بيد، فكيف ستذكرها؟!
انتظرتُ قليلاً ليكمل، من غير أن أضطرّ إلى طرح السؤال عن لولو التي بدأ حديثه بها، ويبدو أنها بيت القصيد في سرّ مجيئه إلى بيروت.
تنهّد طويلاً قبل أن يقول بحسرة:
ـ هل يا تُرى سأجد لولو على يديك؟!
ازدادت دهشتنا. تطلّعتُ إلى يديّ بأصابعها الناحلة، ثمّ نظرت إلى عينَي زوجتي متسائلاً بصمت: كيف سأجد له لولو التي لا أعرفها؟!
لكنه واصل سرد الحكاية دون انقطاع:
ـ كبرَت لولو. بعد ثلاثة شهور ستبلغ الثامنة عشرة. لم ننتبه إلى أنها كبرت.. أصبحت تقرأ الكتب.. تتابع الأخبار.. تتحدّث كثيراً عن فلسطين وتهمس في الهاتف. لم ننتبه إلى أنها كبرت إلى هذا الحدّ إلاّ بعد أن غادرتْ البيت بلا رجعة. في الليلة الأولى سألنا عنها كلّ المعارف والأصدقاء. سألنا المستشفيات وأقسام الشُّرطة في كلّ أنحاء الكويت، فلم نعثر لها على أثر. وفي اليوم التالي لغيابها، جاءتنا إحدى صديقاتها برسالة تركتها لديها، تقول فيها أنها اتخذت قرارها النهائي، والذي لا رجعة عنه، بالسّفر إلى بيروت، لأن أحلامها كلّها هناك!
.. هكذا قالت بالحرف الواحد!
كان علينا ـ أضاف الرجل الذي يقول إنه عمِّي ـ، لكي نتأكّد من صحّة ما جاء في الرسالة، أن نسأل في المطار، علّهم يجدون اسمها في قوائم المسافرين.
بعد يومين من الإلحاح، قالوا لنا إن اسمها موجود بالفعل في قائمة ركّاب الطائرة الكويتيّة التي غادرت قبل ثلاثة أيّام إلى بيروت. كيف ومتى حصلت على تأشيرة دخول، لا ندري! لقد احتجتُ، أنا العجوز، إلى أسبوع لكي أحصل عليها!
لا يهم، المهم أنها الآن في بيروت، وليس لي غيرك ـ يا ابن أخي ـ من سندٍ في هذا البلد. ليس لي غيرك من يجدها ويعيدها إليّ.
لم أطرح عليه سؤال لماذا اختارني. فقد فهمتُ من حديثه عن اهتمامها بفلسطين، أنها جاءت إلى هنا لتعيش في قلب القضيّة، فتنضمّ إلى أحد التنظيمات الفلسطينيّة، التي ربما تكون قد تعرّفت إلى بعض عناصره في الكويت.
اعتقدتُ بأن المهمة ستكون سهلة بالنسبة لي، والدائرة التي سنبحث فيها لن تتجاوز الفاكهاني ومحلّة أبي شاكر ومنطقة الجامعة العربيّة. ثمّ أن الأمر لا يخلو من وجود معارف لي في كلّ التنظيمات، حيث أكتب في صحفهم دون تفريق. فلا فرق لديّ بين يسار ويمين ووسط!
لكن زوجتي اضطرت، تسهيلاً لمهمتي، أن ترفع صوتها عالياً لتسأله إن كانت لولو تنتمي إلى إحدى المنظمات الفلسطينيّة التي تعمل في الكويت. فأجاب بارتباك:
ـ لا أعرف. أكيد أنها كانت تعرفهم هناك، وإلاّ فإنها لا تأتي على عَمَاها. لولا أنها كانت تعرفهم، لما أتت. لكنني لا أعرف اسم التنظيم الذي أغراها بالسّفر!
قالت زوجتي لتطمئنه:
ـ لا تخف، سوف نجدها لك. لا تخف.
انفعل وهو يقول، مغالباً دموعه الواقفة بلمعانها عند حواف مقلتيه:
ـ كيف لا أخاف. البنت صغيرة، وأخشى أن حبّها لفلسطين يكون السبب في وقوعها في المحظور، فتخسر شرفها الذي أحطناه برعايتنا. تستحق القضيّة أن نخسر من أجلها كلّ شيء. ولكن هل تستحق فلسطين أن تخسر البنت شرفها من أجلها؟!
نزع عينيه عن زوجتي ووجَّه نظراته صوبي وهو يقول:
ـ تُحكى الكثير من القصص التي تحدث في التنظيمات، وفي القواعد التي يختلط فيها الجنسان، خاصّة الشيوعيّة منها، حيث لا يتردد الواحد فيها عن النوم مع أمّه أو أخته. فكيف بصبيّة كالوردة، لم يشتمّ عطرها أحد!؟
كان من المستحيل أن أفتح معه حواراً أنفي فيه ما يُشاع. فلا الحنجرة تسعفني ولا طبلة أذنه تسعفه، ولا الوقت يسعفنا نحن الاثنين. ثم إنه ليس هناك من داعٍ للدخول في تفريعات لا تفيد الهدف الذي نسعى إليه كلانا.
***
طوال الأسبوع الذي قضاه عمّي الذي ليس عمّي في بيروت، لم نتوقّف، زوجتي وأنا، عن استغلال لحظات الهدوء التي تشهدها المدينة. كان توقُّف القصف، يتيح لنا أن ننطلق صوب الفاكهاني. وزَّعنا أنفسنا ما بين المنظمات النسائيّة، والإدارات السياسيّة والمؤسسات المدنيّة للتنظيمات المختلفة. نطرق الأبواب ونحن نحمل صورها الحديثة التي جلبها والدها معه من الكويت. أمّا الدور الذي أناط به نفسه، فهو البحث عن اسمها في المطار، حيث أكدوا له هناك أنها وصلت بيروت بالطائرة في التاريخ الذي حدّده. غير أن سؤاله عنها في مقر الأمن العام، لم يُسفر عن أي شيء!
بعد ذلك، أصبح العجوز، الذي ازداد عجزاً وكآبة خلال أيّام قليلة، يتردد على مقاهي الرصيف، في الحمراء وقرب الجامعة العربيّة وعلى الروشة، يطلب فنجان القهوة تلو الآخر. يتفرّس في وجوه الصبايا العابرات علّه يصطدم بوجهها. وكم من مرة تلبّس خيال وجهها سحنة فتاة أخرى ظنها هي، فيلاحقها، ليكتشف أنها ليست لولو.
لم نكتف بطرق الأبواب الكبيرة والمتوسطة. لم نكتفِ بمكاتب «فتح» و»الشعبيّة» و»الديمقراطيّة»، التي لم نعثر فيها على أي أثرٍ للصبيّة. طرقنا أبواب «جبهة النضال الشعبي» و»القيادة العامّة» و»جبهة التحرير الفلسطينيّة»، فلم نعثر عليها. سألنا في مكتب «الجبهة الوطنيّة». ثمّ عثرنا، بعد السؤال، على مسؤولٍ في «حزب العُمّال الشيوعي»، فلم نستفد شيئاً.
بعد أسبوعٍ من البحث المضني، أعلنا للعجوز، زوجتي وأنا، بصوتٍ عالٍ، وإن ظلّ مهزوماً، أن جهودنا، للأسف، ذهبت سُدىً. مضيفين بحزنٍ على النتيجة التي توصلنا إليها، إنه لن يكون بمقدورنا مساعدته، أكثر من ذلك، في مهمّة العثور على لولو، متكتمين عن شكِّنا بأن حبِّها لفلسطين ربما يكون قد أودى بها إلى التهلكة!
ولقد بحثتُ وزوجتي في الاحتمالات الممكنة، فرجّحنا أن تكون الفتاة قد ضلّت الطريق من المطار وتاهت في سراديب مدينة تعيش في زمن الحرب، وربما تكون قد خُطفت قبل أن تصل إلى تنظيمها. أو أن تكون قد صُفيَت وأخفيت جثتها، وهي على أي حال ليست الجثّة الأولى ولن تكون الأخيرة. لكن هذه الأفكار والهواجس كانت تتم بعيداً عن أسماع رجلٍ يعوزه السّمع.
***
كان الأسبوع الذي قضاه العجوز بيننا كافياً لكي أكف عن وصفه بعمّي الذي ليس عمِّي. فقد مسّتني حقيقةً كلماته التي يصفني فيها قائلاً: «يا ابن أخى». وانتبَهَتْ زوجتي إلى أنني أصبحتُ أخاطبه، وأتحدّث عنه معها، بكلمة: «عمّي»، دون أيّة أداة نفي، أو تحفُّظ!
لم تقنعه تطميناتنا بأننا سنواصل البحث عن لولو بعد رحيله، فمثل هذا الأمر لم يكن يُقنعنا نحن في الأساس.
وأمام حقيقة عجزنا وعجزه عن إمكانيّة الوصول إلى لولو. وبعد تردُّد طال، اتخذ عمّي قراره الصّعب بالعودة إلى حيث جاء، وقد بدا مثقلاً بعار الهزيمة.
وها هو الرجل، الذي جاءنا قبل أيّام مُحمّلاً بالهدايا، يعود الآن.. محمّلاً بالخيبة!
***
ولكن كيف يعود؟!
كان المطار قد أُغلق منذ يومين لشدّة القذائف التي تساقطت على مدرجه. أمّا طريق دمشق البريّ، فلم يعد مأموناً، حيث تحتدم هناك معارك الجبل الضارية.
قال بيأس، وهو يتطلّع، للمرّة الأولى منذ مجيئه، صوب البحر:
ـ لم يبق أمامي سوى البحر!
وأضاف شارحاً:
ـ سألتُ فقيل لي إن هناك مراكب صغيرة تُبحر إلى الإسكندرية من ميناء صور. وإذا ما وصلت إلى مصر، فلن تكون الكويت بعيدة.
قلنا له:
ـ ألا تنتظر بضعة أيّام أخرى، فقد تتحسّن الأمور. يُفتح المطار أو تكون طريق دمشق أكثر أمناً!؟
قال بحزن ولكن بحسم:
ـ لن أكون قادراً على الانتظار دقيقة أخرى. سوف أتألم وأنا أطأ تراب مدينة انشقّت أرضها وابتلعت ابنتي.. وكلّ ذنبها أنها أحبّت فلسطين!؟
***
الشيء الذي أفلحنا فيه مع الرجل مكسور القلب، هو أن نرافقه في رحلته إلى صور، فنطمئن عليه، أو نعود به معنا إلى بيروت إذا لم يُوفّق بباخرة، انتظاراً لفرصة أخرى للسّفر.
على أطراف ميناء صور، وقفنا إلى جانب المركب الصغير الواهن الذي وجدناه مهيئاً للإبحار إلى شواطئ الإسكندرية. كانت الحروف المكتوبة بخط بدائي تشير إلى الاسم الذي حمله المركب.. «عبد الباسط»!
اشتممنا رائحة قِدَمٍ تنبعث من الخشب المُشبع ببقعٍ راسخة من الزيت الأسود، فتشي بعتق المركب. دون أن تفلح قشرة الدهان الحديث الملطّخة على جسمه المتهالك، في إضفاء مسحة وهميّة من الجدّة عليه.
لكنه الرحيل،
وحده الرحيل كان الحلم المتيقِّظ في العيون الملتفّة حول المركب.
مئات العيون ظلّت تتوحّد في حلم السّفر، ومئات الأقدام كانت تُعلن استعدادها للصعود إلى سطح المركب الضيِّق. صناديق، وأكياس، وبطاطين، وحقائب كثيرة. حقائب جميلة وغالية، وحقائب فقيرة متداعية تتماسك بحبل يلتف حولها. وكلّ الحقائب تتساوى في انتظار الرحيل.
الهواء مبلل برائحة البحر. وأنا أوزِّع نظراتي بين عمّي والمركب.
لا بدّ وأن «عبد الباسط» كان مركباً فحلاً في الزمن الغابر، يجتاح البحر كلّ يوم، يحفظ كلّ قطرة ماء بين الإسكندرية وموانئ لبنان، قبل أن تغزو السُّفن الحديثة هذا البحر وتلتهم المراكب القديمة. ولكن ها هو زمنه يجئ، يفكّ عنه أصفاد المرسى التي اعتقلته طويلاً في زاوية مهملة على أطراف ميناء الإسكندرية.. يكشط عن بدنه الطحالب التي تسلقته بفعل المطر والصدأ الذي جاء به ماء البحر.. يُخرج نفسه من النسيان.
الآن جاء زمنه، جاء زمنك يا «عبد الباسط».
فمراكب مثله وأصغر منه أصبحت تجتاز الماء بين بيروت والإسكندرية في ثلاثة أو أربعة أيّام. فلماذا لا يكون «عبد الباسط» واحداً منها.
هذا زمنه..
هذا زمنك يا «عبد الباسط»!
***
وحده عمّي كان خارج كلّ ذلك.. خارج الانتظار، وخارج الترقُّب.
عيونه تفضحه.
لم يكن الرحيل بالنسبة له حلماً.. كان خيبة.
وكان العجوز يقف على بعد خطواتٍ منّا، شارد الذهن، مستسلماً لكل شيء، وقد بدا أكثر وهناً، وأنه كبر أعواماً عديدة خلال الأيّام السبعة الماضية.
اقتربتْ زوجتي مني وهمستْ بصوتٍ خفيض:
ـ سنجني عليه لو تركناه يسافر على ظهر هذا المركب. دعنا نعيده معنا إلى بيروت حتّى يجد وسيلة أفضل للسّفر.
عندما تطوّعتُ بنقل الاقتراح إليه، أبى مواصلة الاستماع. أبدى رفضاً قاطعاً للفكرة. لوّح بيديه في الهواء. تفلّت مني كما لو كنتُ أتشبّث به بمخالب صقر. حمل حقيبته وتقدّم من المركب أكثر وأكثر، معلناً إصراره على الرحيل.
عندما أزِفت اللحظة التي تدفّقت فيها الأجساد والأشياء إلى سطح المركب عبر الخطوط الخشبيّة التي امتدت لتصله برصيف الميناء، كان عمِّي يقف جامداً، يراقب مشهد المندفعين بعينين زجاجيتين وكأنه ليس جزءاً منه. حسبتُ للحظة أنه تراجع عن السّفر، وعندما رغبتُ في التأكد من ذلك، خيّب ظنوني، مُجدِّداً رفضه فكرة البقاء، وبشكلٍ حاسمٍ وحازم.
بتعبٍ ووهن شديدين، مدّ يده نحوي دون أن ينطق بطلب المساعدة. أمسكتُه من يده. اقتلعته من مكانه وسحبته. صعدتُ به على لوح الخشب الصّاعد بانتباه شديدٍ وحرصٍ على حفظ التوازن، فأي اختلال بسيط قد يؤدي به إلى السقوط في الماء.
كان يتكئ عليّ وعلى أوجاعه مواصلاً الصُّعود. وفي لحظات كثيرة، كنت أحسّ بأنه غير عابئ بالسقوط.
كنا ما نزال نسير على الخط الخشبي الواصل بين الميناء وسطح المركب، عندما توقّف فجأة وكأنه تذكّر شيئاً نسيه على الميناء. استدار ونظر نحو زوجتي. لوّح لها بيده المتعبة، فوجدها تغالب دمعها. وعندما لوّحت له من هناك، كانت تغص بالبكاء. طفرتْ من عينيه دمعتان، وواصلنا الصعود.
سألتُ عن ربّان المركب، فدلّوني على عمّ «سطوحي»، الذي بدا لي وكأنه قد تم تفصيله خصيصاً ليقود هذا المركب دون غيره. رجل عجوز يتشبّث بحيوية تحاول التفلُّت منه. سلّمت عليه، ونقدته مبلغاً من المال، ثم أوصيته خيراً بالعجوز.
انتبهتُ إلى أنني أوصي عجوزاً بعجوز.
أمسكه سطوحي من يده التي أخذت ترتجف، ليقوده إلى زاوية قريبة، أجلسه فيها وهو يقول له:
ـ هنا مكان دافئ.. أدفأ مكانٍ على ظهر المركب. وسأجلب لك بطانيّة. مع أن صوت الآلة هنا سيزعجك قليلاً.
قلت له مطمئناً:
ـ لا تقلق يا عم سطوحي.. فالصوت لن يزعجه!
***
مرّت شهور قليلة، استعدتُ خلالها وزوجتي الصورة الأخيرة لعمِّي الذي أصبح عمِّي، وهو يذوب بين البشر المتزاحمين على ظهر مركبٍ تئن آلته المتهالكة، ثم ينفصل شيئاً فشيئاً عن اليابسة ويذهب في الأزرق الغامض البعيد.
لم ننتظر منه رسالة تطمئننا على سلامة الوصول. ففي تلك الأيّام، كانت الرسائل ترفاً ومطلباً فائضاً عن الحاجة. وإذا ما وصلتك رسالة بالمصادفة، فسوف تكون عاجزة على إثارة الفرح أو الحزن أو الغضب، أو أيّة انفعالات ومشاعر حارّة أخرى، مهما كانت طبيعتها، لأن الفجوة بين زمن الإرسال وزمن الوصول تكون واسعة، وقادرة على نزع أي أثر للدهشة التي تبعثها الكلمات.
وكدنا، في غمرة الموت اليومي الذي يلاحقنا ويحصدنا واحداً واحداً، ننسى العجوز تماماً. أو أن مروره في ذاكرتنا أصبح شبحيّاً، ومثل الغمام.
لكن ما حدث في ذلك اليوم، أعادنا من جديد إلى قلب الدائرة، التي يبدو أن العمّ ترك نارها مشتعلة تحت ما كنّا نحسبه رماداً.
في ذلك اليوم الهادئ، عند المساء، كنّا نتهيّأ لتجهيز الشموع التي كثيراً ما نلتجئ إلى ضوئها عند انقطاع التيّار الكهربائي، عندما سمعنا طرقات خجولة على باب البيت. توجهت زوجتي لتفتح الباب. ومن هناك، سمعتُ اسمي يتردد على لسان صبيّة. دعتها زوجتي للدخول، فدخلتْ بصحبة شاب طويل لا يخلو من وسامة. سلّمتُ عليهما وأجلستهما في الصّالة. فتاة حنطيّة، فيها مسحة من جمالٍ غجريّ. عينان سوداوان، وشعرٍ متمرِّد، وحيويّة تتفجّر من صمتها.
لم يمرّ وقت طويل، لتفصح الفتاة عن سبب مجيئها:
ـ أنا قادمة للبحث عن والدي. انقطعت أخباره منذ ثلاثة شهور. قيل لي إنكما الوحيدان اللذان يمكنهما مساعدتنا في العثور عليه!
صاحت زوجتي بفرحٍ لم أجد له مُبرراً:
ـ إذن فأنتِ لولو؟!
هزّت الفتاة رأسها وهي تقول:
ـ نعم.. أنا لولو، وهذا زوجي.. «فادي»!
أربكتنا لولو في السؤال عن والدها. فنحن لم نعد نسمع عنه شيئاً منذ أن انزلق به المركب الضيِّق ليمخر فوق صفحة الماء الزرقاء المجعّدة. حاولنا كسب الوقت للتفكير في إجابة مُقنعة. ولذلك ارتأت زوجتي، وطاوعتها بتواطؤ صامت، على أن نرد على استفسارها بوعد غامض، وعن سؤالها بسؤال:
ـ سنذهب معاً لنسأل عنه حيث تركناه في المرّة الأخيرة. ولكن قولي لنا: أين كنتِ يا لولو طوال هذه الشهور؟ لقد بحثنا عنكِ طويلاً مع والدك، ولم نجدك؟!
باختصار، ولكن بثقة وصراحة، روت لنا لولو قصّتها:
كانت الصبيّة التي تفتّحت قبل الأوان، تتردد على أحد الصالونات النسائيّة لتصفيف الشّعر في «السالميّة»، إحدى مناطق مدينة الكويت، حيث كانت العائلة تسكن، عندما وقعت في حبّ فادي، الشّاب الذي ظلّت تحرص في كلّ مرّة على أن يتولّى هو، ولا أحد سواه، تصفيف شعرها.
في البدء أعجبتها وسامته. ثمّ أصبحتْ تحبّ حديثه ونظراته المختلفة إليها. ترحيبه الزائد واهتمامه غير العادي بجمالها. أصبحت تُفرط في تصفيف شعرها وقصِّه، لا لشيء سوى لكي تراه.
ابتسم فادي موافقاً، عندما قالت إنها هي الأخرى وقعت في قلبه، فبادلها الحبّ بحبّ، والعشق بالعشق، والشّغف بالشّغف. ثمّ تطور الأمر إلى علاقة يوميّة. وأوضحت بجرأة أدهشتنا أن هذه العلاقة اليوميّة بلغت أقصي حدودها. مضيفة بصراحة لافتة، إنها كانت تذهب إلى شقّته. ترتدي منامته. يطبخان معاً. وتنام القيلولة على سريره. حتّى اكتشفت لولو مُصادفة أن فادي ماروني، ينتمي إلى الطائفة التي تخوض ميليشيات أحزابها حرباً مع الفلسطينيين في لبنان.
لم تعنيهما مسائل الحرب. قالت إن للمتقاتلين معاركهم الخاسرة، أمّا هما فلهما معركتهما التي سيربحانها في النهاية، مهما واجها من صعوبات. وقد انتهيا إلى اتخاذ قرارهما الشُّجاع بأن ينتصر الحبّ لديهما على الحرب.
ومع يقينها بأن أهلها سيرفضون زواجها من شاب غريب، على الأقل لأنه مَحْكيّ بشأنها من طرف أقارب لوالدتها. فما بالك أن يكون هذا الغريب مسيحياً.. وكيف إذا كان مارونيّاً. سيقول والدها: الله أعلم إن كان ينتمي إلى «الكتائب» أو «الوطنيين الأحرار» اللذين تحالفا على ذبح شعبنا في تل الزّعتر!
هكذا اتفقت مع فادي على الزواج. رتّبا معاً أمور سفرهما إلى لبنان. ومنها سافرا إلى قبرص لعقد قرانهما المدني هناك، وقضاء شهر العسل.
يومها، اكتفت بأن تكتب لأهلها رسالة قصيرة تقول فيها إنها مسافرة إلى لبنان: لأن أحلامها كلّها هناك! هكذا قالت بالحرف الواحد. وأنهت لولو قصّتها بالقول:
ـ الآن نحن نعيش حياة سعيدة. فادي فتح صالوناً للسيدات في «الزلقا». علّمني الصنعة.. ونحن منسجمان معاً في حياتنا وعملنا.. وفي بيتنا الذي بدأناه بفرشة على الأرض، وراقبناه وهو يكبر ويتأثث معنا كلّ يوم.
ثم أضافت ضاحكة:
ـ .. ولولا القذائف التي تأتينا من طرفكم، لكنّا أكثر سعادة!
كنا ساهمين، مأخوذين بقصّتها، وبأحلامها التي تحققت. غير أنني كنتُ مصرّاً على أن أفتح الغرفة الأخيرة وأكسر مغاليقها، فأطرح عليها السؤال الذي ظلّ يُشغلني:
ـ إذن فأنتِ لم تذهبي إلى أيّ تنظيمٍ فلسطيني؟!
لقد احتاجت لولو إلى وقت طويل لكيّ تردّ على السؤال بسؤال:
ـ أي تنظيم؟! لماذا أذهب إلى تنظيم. أنا لم أعرف أي تنظيم طوال حياتي، ولا أعتقد أنني سأكون مضطرة لذلك!
سألتها زوجتي عن كيفيّة عثورها على عنواننا.
قالت إنها، بعد عودتها من قبرص، شعرت أن الوضع بات مناسباً لكي تفاتح أهلها بموضوع فادي، وتكشف لهم سرّ زواجها منه. كتبت لهم بالتفصيل، فجاء الردّ من أمها أن والدها سافر إلى بيروت، عاقداً العزم على عدم العودة إلاّ بصحبتها. لكنه لم يعد حتّى الآن. لتُنهي لولو حديثها بالقول:
ـ وقد زودتني بعنوانكما، قائلة إنه لن يكون بمقدوري العثور عليه دون مساعدتكما.
ومن المفارقة أن نكتشف، ونحن نحدد التاريخ الدقيق للأيّام السّبعة التي قضاها والدها معنا هنا، والتي كرّسنا ساعاتها بكلّ دقائقها البليدة للبحث عنها بلا كلل، كانت هي نفسها، تعيش أسبوع عسلها في قبرص.. التي سافرت إليها برفقة فتاها، في مركب صغير من ميناء «جونية»، لتكتب عقدها المدني، وتشاكس الماء هناك.. عروساً على شاطئ بحر «أيانابا» ورماله الذهبيّة.
ثمّ ردّدت على مسمعي عبارة بدت لي أنها مرّت عليّ من قبل:
ـ آمل أنني سوف أجد والدي على يديك؟!
***
مع شقشقة فجر اليوم التالي، كنا ثلاثتنا، لولو وزوجتي وأنا، ننطلق بسيارتنا بمحاذاة البحر الممتد على الطريق إلى الجنوب. وقد آثرنا أن لا يرافقنا فادي كي لا يخلق لنا وجوده مشاكل على الحواجز، نحن في غنى عنها.
وصلنا الميناء مع ساعات الصباح الأولى..
كنّا نأمل أن تشاء المصادفة بأن يكون «عبد الباسط» هناك، لنتوجّه بسؤالنا مباشرة لربانه العجوز النشط سطوحي، سائلينه عن تلك الرِّحلة التي أبحر فيها بعبد الباسط إلى الإسكندرية أوائل آب الماضي، وإذا ما كان يتذكرها، ويتذكر عجوزاً أوصيته به خيراً!؟
لكن وجود مركبٍ آخر هناك، لا يقل بؤساً عن شريكه في البحر، عبد الباسط، خيّب أملنا وأجهض حلم لولو.
بحثنا عن ربّان المركب لنسأله عن رحلة «عبد الباسط»، فوجدناه يتناول إفطاره في مطعم قريب.
قال لنا الرجل، وهو يواصل تناول طعامه، إنه يعرف «عبد الباسط» تمام المعرفة.. فهو في البحر من عُمر المركب، ويعرف سطوحي أيضاً، الله يسهِّل طريقه أينما كان. وكلّ ما يعرفه عن تلك الرحلة، هو أنها لم تصل إلى الإسكندرية حتى يوم مغادرته لها، قبل خمسة أيّام.
طرح علينا الرجل بدوره إن كان لنا قريب أو حبيب على ظهر «عبد الباسط» في تلك الرِّحلة. فقالت لولو:
ـ أنا لي حبيب كان هناك.. على ظهر المركب!
قال الرجل موجهاً حديثه للفتاة:
ـ هوِّني عليك يا ابنتي. أدعو الله أن يطمئنك على أحبابك!
شكرتُه على نبل دعوته، وقلتُ له إننا على استعداد لأن نتقبّل أمر الله إذا كان لديه ما يفيد بمصير المركب وركابه. وقد جئنا إلى هنا من بيروت ونحن مهيؤون لسماع كلّ الأخبار، مهما كانت فاجعة لا سمح الله، وذلك خيرٌ لنا من أن نكون كالتائه في عرض البحر دون بوصلة أو دليل، محاصر بالماء، لا يعلم أين هو، ولا يدري أي شيء عن مصيره!
لم يجد العجوز مفراً من الإفصاح عمّا لديه من كلام، قال:
ـ في الحقيقة، هناك روايات كثيرة حول مصير «عبد الباسط». البعض يقول إن المركب تاه في عرض الماء. لكن مَنْ مِثل سطوحي لا تخدعه دروب البحر، فهو يستطيع أن يقطع الطريق بين إسكندرية وبيروت وصيدا وصور وطرابلس دون أن يحتاج إلى بوصلة، ومن غير أن يضطر حتّى لأن يفتح عينيه.
.. وهناك من يقول إن المركب تعطّل في عرض البحر، دون أن يجد مركباً آخر عابراً يُقدِّم له المساعدة. فالمراكب قليلة هذه الأيام، والبحر ليس آمناً. وقد أعيا ركابه المرض وبرد الليل والجوع، فلقوا، الواحد تلو الآخر، ما أراده الله لهم وكتبه في لوحٍ محفوظ. غير أن الشهور مرّت ولم يظهر أي أثر للمركب، لا في البرِّ ولا في البحر، ما يُسهم في نفي هذه الفرضيّة.
.. ولم يبق لنا، أضاف العجوز، إلاّ الاحتمال الأخير، وهو أن يكون المركب قد وقع في أيدي الدوريات الإسرائيليّة التي تجوب البحر، مثل القراصنة الذين نراهم في أفلام السينما. فإن كان الأمر كذلك، فسوف يقودون المركب إلى شواطئ يافا وحيفا أو ميناء أسدود، يُخضعون الركّاب للاستجواب، يعتقلون منهم من هو مطلوب لديهم. ولا شكّ في أنهم سيُطلقون سراح غير المطلوبين وكبار السنّ:
ـ وهل حبيبكم الذي ذهب مع «عبد الباسط» كبير السنّ؟!
تساءل الرجل. فكدتُ أردّ بالإيجاب. غير أن صوت لولو سبقني وهي تقول:
ـ لا.. إنه شابّ.. شابّ في عزّ شبابه.
الفتاة الحنطيّة، بمسحة الجمال الغجريّ الذي بدا وحشيّاً أكثر من أيّ وقتٍ مضى..
الفتاة التي ازدادت عيناها سوداً ولمعاناً..
وازداد شعرها تمرداً..
وصوتها ثقة،
الفتاة الجريئة، التي تمتلك شفافيّة الماء ووضوح الشّمس، التي أحبّت فادي الماروني وتركت رمال الكويت الذهبيّة من أجله، مع أنها كسرت قلب أهلها.
الفتاة الجريئة التي لم تنتمِ يوماً لتنظيم فلسطيني في الكويت، ولم تمارس الكفاح المُسلّح، ولم تعرف يوماً همّ السياسة، قالت جملتها الأخيرة وهي تتطلّع إلينا:
ـ كلّ الاحتمالات واردة، لكنني أتمنى أن لا يكون أبي قد ذهب مع الاحتمال الأخير!