يامن نوباني
في سنةِ 1992 كنتُ في السّادِسةِ منْ عُمري، ووليد في الخامِسة، كُنّا جَارَين وصَدِيقَينْ منذُ ذلك الوقت، كانت الانتفاضةُ الأولى في آخرِ مَراحِلِها، فاستشهدَ شابٌ منْ حارِتَنا، أمُ الشّهيد جلستْ على الأرض، وبدأت بالضرب، ضربة للأرض وضربة لصدرها، وتصيح: ابني طخوه، ابني طخوه، مَزّقت منديلها، وصارت النّساءُ تُوَلْوِل، فَحين يستشهدُ شابٌ في قريةٍ صَغيرة كَقريتِي تُصبحُ كلُ النساء أمه!
كُنّا نجلسُ قَريباً منْ البيتِ دونَ أنْ نَجرُؤ على الاقتِراب، قلت: «شايف يا وليد ما بدنا نستشهد، عشان إمِي وإمَك».
جاءَ الإسعافُ بالشّهيد، وهجمت كلُ البلدِ على بيتِه، تسّلقتُ مع وليد شُبّاكَ مَطبخِهم لِنرى ما الذي يجرِي، وكان الرَجالُ يَومَها يبكون وهمْ يُدْخِلونه غُرفة الضّيوف ويقولون: «بِدون عياط ، اهدِنْ يا نسوان...» وهم أنفسُهم يبكون!
«شايف يا وليد حتى الرجال يبكون في هذا الموقف»، إمامُ المسجدِ الذي فتحَ السّماعة على القُرآنِ الكَريم مُنذُ الصّباح كان يبكي أيضاً، كُلُ القريةِ تبكِي.
ما بدنا نستشهد يا وليد.
ركضنا كباقِي الأطفال أمامَ الجَنازة، وكان مُلثمون يُطَوّقون الجُثمان، ومُلثمون آخرون يكتُبون على جُدرانِ القرية، ويُوقِّعون تحت السّطر بكلمة «فتح»، ولم نكنْ ندرِي يومَها ماذا يعني السّطر أو الكلمة، وكان مَدخلُ القريةِ مُزدَحِماً بالجِيبات الإسرائيليّة، لا أذكرُ أنْ حدثَ إلقاءُ حِجارة أو أنّنِي سمعتُ أصواتَ رصاص، لكنّ مشهدَ الدُخانِ الأسودِ الكثيف المنبعث من إطارات السيارات المشتعلة في جميع الطرقات، لمْ يَغبْ عنْ بالِي إلى اليوم.
بعد أشهُرٍ قليلة صارتْ أمُ الشّهيدِ تجلسُ بِبابِ بيتِهم مُدةً أطْوَل، فَنمُرُ عنّها خَجُولِين مِنْ طرحِ السّلام، لِظَنّنَا أنّها لنْ ترُدْ، ثم حدثَ مَرةً أنّها أوقَفَتنَا وقدّمتْ لنَا التّين، فصِرنَا نقولُ لها خالتِي...
كَبرنا على هذه الكَلِمة.. وصارتْ أُمُ الشّهيدِ خالتَنَا.