ما بين روايات وسير ذاتية
كتب يوسف الشايب:
برزت في السنوات الأخيرة، ظاهرة كتابية في لبنان، تنبش في ثنايا العلاقات الشائكة ما بين طوائف ومليشيات لبنانية وما بين الفلسطينيين، خاصة في حقبة الحرب الأهلية، وما رافقها من مجازر ومعارك، ودماء سالت، وجرح لم يندمل بعد.
فما بين روايات وكتب سيرة، وما بين حديث يبدو غير ذي جدوى حول الاقتباس، والتناص، والاتهامات بالسرقة أحياناً، يبقى العنوان الأبرز، هو عودة اللبنانيين الجدد، إن جاز التعبير، إلى تلك الحقبة الملتهبة، من باب إعادة قراءة العلاقة بين اللبناني والفلسطيني، وكأنها تنكأ الدمّل الذي لا يزال متقيحاً ربما في بعض الأحيان، أو لربما يأتي من باب «تأنيب الضمير أو إراحته أو حتى إزاحته»، و»الرغبة في الخلاص من العذابات الداخلية»، أو هي محاولة لـ»البوح»، والغوص عميقاً في «المسكوت عنه»، أو ... أو ...
وكان آخرها رواية جنى فواز الحسن «طابق 99»، المرشحة للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) 2015، من بين ست روايات في القائمة القصيرة للجائزة، وإن كان سبقها البعض إلى ذلك بسياقات مختلفة ومغايرة على مستوى الموضوع والصياغة والحكاية.
لنخرج الألم ونحدثه قليلاً
وتسرد رواية «طابق 99» حكاية مجد، وهو شاب فلسطيني يحمل ندبة المجزرة في جسده، ويقع دونما اختيار في حب هيلدا ذات الديانة المسيحية وابنة أحد القادة في الكتائب اللبنانية، وابنة شقيق أحد مقاتلي الكتائب؛ ليبدأ الصراع حين تقرر الفتاة التي تتعلم وتمتهن الرقص في نيويورك، العودة إلى قريتها في جبل لبنان لإعادة اكتشاف تفاصيل ماضيها ومجموعة الذكريات المتكونة هناك، وليجد مجد أيضاً نفسه مضطراً إلى استعادة أحداث مؤلمة أودت بحياة والدته وجنينها الذي لم يخرج بعد للحياة.
وتضع أحداث الرواية جيل ما بعد الحرب في مواجهة مع أسلافه لطرح الأسئلة حول جدوى المعارك القديمة، وتأملات حول قدرة الحب على تطهير الأحقاد والعداوات؛ لتخبرنا الرواية أن المعارك الدموية تطلب أكثر من وقف إطلاق النار، وبأن مآسي الحروب لا تنتهي بعد حدوثها على الإطلاق، حيث تبدأ مع كل بارقة أمل ولتصبح الأشلاء المطمورة حكايات تُقرأ.
وقالت الحسن لـ»الأيام»: الألغام موجودة .. كل ما حدث أننا وضعنا فوقها كلاماً معسولاً وخطابات سياسية مزرية، السياسة أساساً هي جرمنا الأكبر، على الأقل في لبنان ... ليس نبش الذاكرة ما يؤلم، بل العبور من فوقها كأنّها لم تكن موجودة. العلاقة اللبنانية – الفلسطينية شائكة، وما يقال خلف الكواليس مختلف عما يقال عبر القنوات الدبلوماسية وأنا أفضل الفظاظة في حقيقتها... هناك لبنانيون كثر أيضاً يساندون القضية الفلسطينية، والبعض يستفيد أحياناً من المساندة .. لا أتكلم عن المواقف، بل عن النسيج الاجتماعي والانفصال شبه التام بين المكونين، لنخرج هذا الألم ونحدّثه قليلاً ونستمع إليه، ربما بعدها يزول فعلاً بدل أن يُغيّب.
الفلسطيني .. بشر
وعند الحديث عن هذا الجانب، لا يمكن بأي شكل من الأشكال، إهمال كتاب «ألقيت السلاح» (امرأة في خضم الحرب الأهلية) لريجينا صنيفر، والصادر عن دار الفارابي في العام 2008، الذي تقدم فيه مراجعة لتجربتها كحزبية انخرطت في إحدى المليشيات التي شاركت في الحرب الأهلية اللبنانية، وعبر رواية وقائع السنوات التي عاشتها كمتحمسة عمياء لطائفة وفريق سياسي أولاً، ثم كمتفحصة وناقدة ومتألمة للتصرفات والأفعال التي ارتكبها الفريق الذي انتمت إليه ثانياً، وكمنقلبة على معتقدها السياسي وتحزبها الطائفي، ومنحازة لرؤيا إنسانية لا ترى في الآخر الذي يختلف معها دينياً أو سياسياً عدواً ثالثاً، تقدّم صنيفر اعتذاراً علنياً شجاعاً عن سنوات الحقد والموت التي شاركت فيها، وإن لم يكن بالسلاح.
لا تلجأ ريجينا صنيفر التي انخرطت منذ صباها في ميليشيا القوات اللبنانية، على حد وصفها، بسبب البيئة العائلية والمحيط الاجتماعي المنغلقين، أو إلى مراجعة شكلية لتجربتها الشخصية، ومن خلالها لتجربة القوات اللبنانية، بقدر ما هي محاولة لتخلص نفسها من أعباء سنوات الحقد والدم، فكتابها هو اعتراف جدي وحقيقي بمسؤوليةٍ ما تتحملها لانخراطها في الحرب، تشعر أنها تثقل كاهلها، وتريد أن تتخلص منها لتبرأ من جراحها الداخلية، وليس هدفه تحسين صورتها الاجتماعية، هي التي انضمت إلى المليشيا المسيحية نتيجة عواطفها الصبيانية، وتأثراً بالجو الأسري والعائلي المغلق، إضافة إلى غسيل الدماع الايديولوجي العقائدي الذي دفعها للتعلق بمشاريع وزعماء مليشيات والسير وراءهم بدون نظرة توقف نقدية، لكن هذه المشاعر نفسها التي قادتها للمشاركة في حرب ضد إخوة البلد، هي التي جعلتها تكبح حماسها وتوقف اندفاعها، بعد أن شاهدت رفاقها من نفس المعسكر يعذبون ويسجنون ويعدمون على أيدي رفاقهم.
وهذا التفكير وهذه المراجعة، وفق قراءات متعددة لاعترافاتها، جعلاها تنظر إلى الفلسطيني الذي ولدت وتربت وهي تعتبره عدواً لأول مرة باعتباره بشراً، لديه مشاعر وأحاسيس وعائلة وأم.
روايات متعددة
ورغم أن رواية ربيع جابر «طيور الهوليداي إن»، لم تخلُ من رائحة الجثث الفلسطينية، إلا أن الحضور الفلسطيني بقي هامشياً إلى حد ما، إذا ما قورن، بالغوص عميقاً، وباقتدار، في تفاصيل الحرب الأهلية اللبنانية وبشاعتها، لكنه يبدو وكأنه يستعيد ما جاء في ذكريات بول رزق، حين قال «كشفت الكونتيسا أن المسيحيين مستعدون للتوحش.. بعد أقل من 48 ساعة اكتشفت في الدامور أن الفلسطينيين أيضاً مستعدون أن يتوحشوا»، عبر صور تتوالى كمشهد سينمائي تتكدس فيه الجثث المقطعة والبيوت المحروقة، ما يعكس حالة من توحش لبناني وفلسطيني بدا بالنسبة لأبطال الرواية، التي تشكل الحرب بطلها الرئيس، غير متوقع.
وفي حين كانت الحرب الأهلية مادة دسمة في عديد روايات جبور الدويهي، بينها رائعته «شريد المنازل» والتي وإن لم يكن حضور الفلسطيني فيها محورياً لكنه موجود بالتصريح أو التلميح، فإن الحديث يطول عند الحديث عن ملحمة الروائي اللبناني إلياس خوري «باب الشمس»، والتي تحولت إلى فيلم سينمائي في جزأين، حيث جعل من مجزرة صبرا وشاتيلا منطلقاً لكتابة وجع الفلسطيني، الذي هو بطل الرواية بامتياز، وهو الذي كتب بعد خروج منظّمة التحرير الفلسطينية من لبنان، رواية «رحلة غاندي الصغير» (1989) التي تمحورت حول أن الحرب لم تنتهِ مع خروج الفلسطيني، والتي تسترجع حكاية ماسح أحذية مولود في عكّار يلاقي حتفه في شارع الحمراء العام 1982.
وتعتبر الروائية اللبنانية ليلى عسيران، من أكثر المنحازات إلى الثورة الفلسطينية، هي التي انخرطت بشكل أو بآخر في صفوفها، والتقت بقائدها الراحل ياسر عرفات، وأهداها كوفية ذات يوم، ففي العام 1972، وثقت انحيازها النادر للفدائيين في قالب روائي، فكانت رواية «خط الأفعى، التي استوحت الاسم من تعرجات نهر الأردن، وهي الثانية عن الفدائيين الفلسطينيين. وأهدت روايتها إلى «الفدائيين، إخواني حتى... نلتقي على الأرض»، هي التي دمرت الحرب الأهلية اللبنانية منزلها وأحرقت أوراقها الخاصة.
حكايات ودماء
وما بين حكايات الروايات، وبوح الكتاب، ثمة أنهار من الدماء، خاصة عند الحديث عن معارك ومجازر لا تزال حاضرة في أذهان مرتكبيها، النادم منهم وغير المكترث، لاسيما بين «الكتائب اللبنانية» والفلسطينيين عزلاً وفدائيين.. تتشابك الحكايتان أحياناً، وتفترقان في أحيان أخرى، لكن يجمعها عنوان واحد وعريض .. «الحب المستحيل»، وهو بالمناسبة عنوان رومانسي لربما لا يليق بدموية العلاقات، رغم محاولات تخطيها بالانتصار للإنسانية من خلال حكايات حب واقعية أو مختلفة.
مضحك .. مُبكٍ
وفي الختام أعود إلى ما قالته الروائية اللبنانية جنى فواز الحسن: نمنا واستيقظنا ووجدنا الحرب منتهية، لم يخبرنا أحد لمَ بدأت ولا لمَ انتهت ولا ماذا حققت من مبتغاها، لكن من الواضح أنّها كانت إمعاناً في ترسيخ الانقسامات بيننا. .. هذه الانقسامات لا تزال موجودة والآن صارت تأخذ أسماء وفرقاء مختلفين .. ما لم يتغير هو لاجدوى الصراع، نحن محكومون بالعيش مع بعضنا، وفي لحظة ما، الحسابات السياسية تتغير والأعداء القدامى يتآخون، ونحن، بكل سذاجة، نستمر في خوض معاركهم الموجهة ضد مصالحنا كمواطنين، أليس المشهد مضحكاً ومبكياً؟!