تاريخ النشر: 05 أيار 2015

صاحب «شريد المنازل» و «حي الأميركان» يكتب ما يحب قراءته لدى الآخرين

الروائي اللبناني جبور الدويهي لـ«أيام الثقافة»: تبقى فلسطين نقطة إجماع وعجز في آن !

حاورته بديعة زيدان:
للحوار مع روائي بحجم جبور الدويهي، نكهة خاصة، وكأن هناك رغبة لدى من يحاوره بألا يختتم الحوار بسؤال أخير، فعوالم رواياته بشخوصها تدفع القارئ إلى التعايش معها حد الرغبة بعدم القطيعة، كما دفعتني إلى المزيد ثم المزيد برغبة في ولوج عوالمها وعوالمه... معه كان لـ»أيام الثقافة» الحوار الآتي:
• بدءاً من «مطر حزيران» وانتهاءً بـ»حي الأميركان» مرورا بـ»شريد المنازل» نحن أمام روايات سياسية أو توثيقية يغلفها العنف. ماذا وراء هذا الاتجاه؟
إنها حياتنا وتاريخنا المعاصر فأنا لا أطيق كتابة ما لا أعرف كالرواية التاريخية أو الخيال العلمي، فكان نصيبي من المواضيع فصولا تمتد على أكثر من نصف قرن غلب عليها نزاع النفوذ والانتماءات والعصبيات والهويات الصغيرة، انفجرت باكراً كما وصفتها في «مطر حزيران»، وتبعتها حرب أهلية مشتعلة ومن بعدها سلم أهلي بارد ومجابهات مذهبية تمتد اليوم إلى أرجاء العالم العربي.
أما التوثيق فهو المعيش أو «الممكن» من الأحداث، تكتسب الرواية منه تواصلها مع قارئ يتماهى مع شخوصها ومجرياتها.

«مطر حزيران»
• في رواية «مطر حزيران» تناولت مجزرة مزيارة والعنف في منطقة زغرتا في خمسينيات القرن الماضي، هل هذه العودة بالتعريف ببدايات الحرب الأهلية في لبنان أم هي مقارنة بين حربين؟
الحقيقة أنني لم اختر هذا الموضوع من تلقاء نفسي بل نتيجة نصيحة وإصرار أصدقاء مثل المرحوم سمير قصير الذي أهديته الرواية، والأستاذ سمير فرنجية أطال الله بعمره.
فهذا الفصل من النزاع الأهلي في منطقة ومجتمع أعرفهما بدا مع مرور الزمن كتمرين أوّلي على الحرب الأهلية التي عصفت بلبنان بعد أقل من عشرين عاما على هذه المقتلة في كنيسة بين عائلات مارونية، وذلك من جوانب عدّة أبرزها العصبية ومعاملة الآخرين كجماعة مسؤولة بشيبها وشبابها عن أعمال العنف والثأر و»التطهير» العائلي الذي أعقب ذلك، ورسم خطوط تماس جغرافية بين المتخاصمين والتصورات النابذة للآخر المشابه. لكن في النهاية لم أكتب تلك الرواية لأبرهن أي شيء، بل سعيت لأن أصف فيها حياة مجتمع خاص أعرفه جيداً، في آخر خمسينيات القرن الماضي بعلاقاته العامة والحميمة وسلوكياته في اليومي والاستثنائي.

واقع وخيال
• روايتك الأولى «اعتدال الخريف» مستوحاة من شخوص بيئتك، بل إن بعض أصدقائك اقترح عليك تفاصيل وشخصيات أخرى .. أين خيال الروائي في رسم شخوصه إذا ما كانت حقيقية حوله؟
في مطلق الأحوال لا بدّ عند بناء الشخصيات الروائية من نموذج أو نماذج أشخاص في الحياة الواقعية، ولعل السواد الأعظم من الكتّاب يعرف ذلك ويختبره، فالحياة ومن باب أولى حياتنا ومعارفنا وعلاقاتنا هي التي تمدنا بالموارد البشرية والنفسية التي نؤسس عليها صياغة العالم المتخيّل.
والمؤكد أن حياة واحدة لا تكفي لإغناء الشخصيات الروائية المحتاجة إلى الاستعارة من مصادر ومرويات متعددة.
لكن ما يمكن تسميته «المنطق الروائي» يفترق سريعاً عن منطق الوقائع المعيشة، ومع هذا الافتراق تسلك الشخصيات والأحداث مساراً خاصاً لا يعود مطابقاً في أي حال للنماذج الواقعية الأولى، هذا ما حصل معي في «اعتدال الخريف» وفي جميع رواياتي اللاحقة.

«شريد المنازل»
• كانت «شريد المنازل» وجبة دسمة من الوجع، هل ترى أن الأدب يمكن أن يغير الواقع الصعب أم أنها مجرد فضفضة أو تعبير عن رفض ما؟
لا أومن بالفعل المباشر للكتابة الروائية في نشر التقدم أي أن مضمون الروايات لا يحمل بالضرورة توجهاً وعظياً وربما يكون هذا النوع من الروايات الهادفة اجتماعياً أو أخلاقياً هو الأقل جاذبية للقراء، بل إن العبرة هي في فعل القراءة نفسه كما هي في فعل الكتابة.
المطالعة، وخصوصاً المطالعة الأدبية الروائية تزجّ القارئ في عوالم متوالية متخيّلة وحقيقية في آن فتصبح الحياة غنيّة باحتمالاتها ومصائرها المتنوّعة، فالإقبال على كتابات تعيد ابتداع العالم وسرده كما هو نفسه فعل الابتداع والسرد هذا أي القراءة والكتابة ينمّان عن قدرة على القبول بمسافة مع هذا العالم وأقداره الساخرة والمتغيّرة في غالب الأحيان، والفعليَن  الكتابة والقراءة، تقدميان بحد ذاتهما، ورواية «شريد المنازل» لا تهدف ولا يمكنها تغيير الواقع بل إلى وضعه على تلك المسافة التي ربما تحررنا من وطأة هذا الواقع.
و»الوجع» كما تسمينه ليس إلا جزءاً من «وصفة» الكتاب الذي يحكي سيرة شاب بين طائفتين فتندلع الحرب الأهلية ولا يبقى له مكان يقف فيه ! 

عودة إلى الحرب الأهلية
• نلاحظ في السنوات الأخيرة أن هناك عودة لبنانية على مستوى الأدب وخاصة الرواية وحتى في المسرح والسينما إلى مرحلة الحرب الأهلية والعلاقة المشتبكة ما بين بعض اللبنانيين والفلسطينيين.. بماذا تفسر ذلك؟
علاقة الرواية والسينما اللبنانية بالحرب تأسيسية إذا أمكن القول، فالرواية اللبنانية قبل ما سمّي الحرب أي قبل العام 1975 كانت النوع الأدبي الأصغر وكان عدد كتابها طوال قرن من الزمن لا يتجاوز أصابع اليدين، من جبران خليل جبران إلى توفيق يوسف عواد. فإذا بالحرب الأهلية وما اكتنفها من علاقة متناقضة مع الفلسطينيين تدفع بهذا النوع الروائي إلى الأمام فتزدهر الإصدارات، وبات ينشر في لبنان بعام واحد ما كان يصدر في ربع قرن وأكثر، فالرواية والفيلم السينمائي محاولة لتعويض فقدان الواقع معناه من خلال إكسابه بعداً خيالياً يمنحه قواماً وهوية.
وقبل أن تتسع ظاهرة «اللبننة» أو تشظّي الانتماءات لتطال بلداناً عربية أخرى، كان موضوع الرواية اللبنانية بامتياز هو نزاعات الانتماء والبحث عن المرجع الجامع وانتربولوجيا العنف الأهلي.

«حي الأميركان»
• قلت ذات مرة إنك تجد صعوبة في كتابة الحاضر لكنك من خلال شخصية إسماعيل في رواية «حي الأميركان» تناولت واقع التطرف في الوطن العربي، وهو واقع نعيشه حاليا ؟
قلت إنني أجد صعوبة في كتابة الراهن عندما لا يكتمل معنى ما نعيشه فنكون واقعين في خضم أحداث نعجز عن وضع مسافة بيننا وبينها وهذا يصحّ خصوصاً في النزاعات التي نكون بشكل من الأشكال أطرافاً فيها، أما بالنسبة لموضوع رواية «حيّ الأميركان» وهو كما تقولين موضوع راهن يصوّر البيئة التي قد يخرج منها جهاديون إسلاميون للقتال في أمكنة تحدد لهم، فأنا بداية غير متورط في هذا النوع من النزاع، وأعتقد أنه متقادم ومحكوم بالعقم والدموية، ويمكن بالتالي إظهار معانيه وأبعاده بسهولة لأن التاريخ حافل بمجانين خلاصيين من هذا النوع.
• في جولة داخل «حي الأميركان» في طرابلس، هذا الحي الفقير المهمش والذي أغرقت في وصفه حتى بتنا نراه بين السطور .. هل هي محاولة لاستعادة جغرافيا مهملة كحي الأميركان وماذا يعني المكان لجبور الدويهي وكيف يقيم حضوره في رواياته؟
ربما يكون المكان هنا هو البطل الحقيقي للرواية والحيّ الفقير المكتظ المتراكمة بيوته فوق بعضها على ضفة النهر مقابل القلعة الصليبية الدهرية، والذي لا يمكن دخوله إلا عن طريق الأدراج هو الذي ناداني لكتابة هذه الرواية التي بدأتها على كل حال بجولة فيه وبالمدينة على طريقة «الترافلينغ» السينمائي.
وما جذبني فيه أيضاً هو هذا الالتقاء الممكن معاينته في الكثير من ضواحي المدن وصولاً إلى الأوروبية منها حتى بين البؤس والدعوات الإسلامية الجهادية، كما كانت الثنائية المكانية في المدينة، أي ضفة للفقر وأخرى للطبقة الوسطى، ترسيمة مناسبة لسيناريو اجتماعي يحكي مصائر متعارضة يمكن أن تلتقي بإنسانيتها.
• إذا ما أخذنا «حي الأميركان» كمثال هل تعتمد في سردك لتفاصيل الحيز الجغرافي على الذاكرة أم أن يعيش المكان بحاضره من جديد أم كليهما (هل تذهب وتعاين المكان من جديد وتتفحص تفاصيله) ؟
عموماً لا اكتب إلا عن الأمكنة التي أعرفها والمدينة التي وصفتها هي بشكل من الأشكال مدينتي، حصّلت دروسي فيها في معهد الإخوة المسيحيين وعدت وعلّمت في مدارسها وجامعتها وأنا شبه مقيم فيها يومياً، أكتب رواياتي في مقاهيها وألتقي الأصدقاء وأجوب أسواقها التي تسمى «أم الفقير»، وقد قمت بزيارات متكررة إلى أحيائها الفقيرة واستمعت إلى ناسها وتواصلت مع شبان أغراهم نداء القتال «في سبيل الله»، كما أنا على صلة مع فئاتها الاجتماعية الأخرى و»عائلاتها» التي تتبارى بإثبات «أصالتها»، فالمكان أليف بالنسبة إليّ بحاضره وماضيه الممتد نصف قرن إلى الوراء على الأقل.

الجوائز
• لك حكايات مع الجوائز، فسبق أن ترشحت مرتين لجائزة البوكر وفزت بجائزة الأدب الشاب في باريس كما حازت «روح الغابة» على جائزة فرنسية لأدب الشباب .. كيف تنظر إلى الجوائز ودورها إيجابا وسلبا على مجمل المشهد الروائي العربي؟
الجوائز مكملة للمشهد الأدبي، كما النشر والنقد وترجمة الأعمال الأدبية، وهي عموماً تساهم في إبراز عناوين وأسماء، وهي تعكس أفضليات لجانها التحكيمية، وهو أمر طبيعي، فمن يتقدم إلى جائزة يعرف تاريخها وآلياتها، وليس له أن يعترض على نتائجها وهي بالضرورة مخيّبة لآمال الكثيرين من الكتاب، والمعروف عالمياً أن الجوائز لا تتوج دائماً الأعمال التي يتبين لاحقاً أنها دخلت تاريخ الأدب بل يمكن أن تنحو إلى تفضيل كتابات ظرفية.
ولمن لا يحصل على الجائزة أن يعزّي نفسه، وهو قد يكون محقّاً، فإن العديدين ممن نالوا جوائز مثل نوبل أو غونكور باتوا طي النسيان، بينما كاتب عظيم مثل مرسيل بروست لم يجد بسهولة دار نشر توافق على إصدار كتبه الأولى.

روايات القطار
• قلت في حوار سابق إن ما يهمك أن لا تكون رواياتك من روايات القطار التي يمكن أن تقرأ شيئا منها وتترك على المقعد .. كيف يمكن للروائي أن يحقق ذلك؟
ما من كاتب لا يحبط من ترك روايته على المقعد بعد النزول من القطار، أما كيف تتفادى ذلك فهنا المسألة برمّتها !
ولا شك أن هاجس عصيان ما نكتب على الإهمال أو النسيان يسكن الكاتب الذي يماهي بينه وبين كتبه. أما إقبال القراء على كتاب أو إعراضهم عنه فإشكالية يصعب حلّها وإلاّ كان بالإمكان كتابة نجاحات أدبية غبّ الطلب. من جهتي أقارب الكتابة كتمرين على المتعة أي أنني اكتب ما أحب قراءته لدى الآخرين.

أوليات الرواية
• اللغة، السرد، والحكاية .. ما هي أولويات جبور الدويهي أثناء كتابته لرواية ما؟
تشيرين إلى ثلاثة عناصر مترابطة بحيث لا وجود لها إلا مجتمعة متناسقة تولّد ما يسمّى الأسلوب وهي دمغة الكاتب وصوته وشخصيته.
الواقع في هذا كله أنني أكتب ببطء شديد، أعيد وأعيد وأختزل خصوصاً واقرأ لنفسي وأحسّن بما يرضيني حتى يأتي يوم أقول إنه لم يعد لديّ الطاقة على التصحيح فاستسلم.

القمة وما بعدها
• عندما يصل روائي برواية ما إلى ما يقترب من القمة كيف له أن يحافظ على ما وصل إليه أو يرتقي به لا أن يهبط في منتجه اللاحق ؟
أعتقد أن على الكاتب التوقف بدل المراوحة، وهذا ليس بالأمر السهل.

تأثر
• بمن تأثر جبور الدويهي ولمن يقرأ؟
درست الأدب الفرنسي ودرّسته فكانت حصتي مرسيل بروست وسيلين وقبلهما فلوبير وستندال وبعدهما مرغريت يورسنار ومرغريت دوراس، كتّاب فتحوا أمام اللغة الفرنسية والأدب الروائي آفاقاً شاسعة وأحببت كذلك الروس وماركيز وفوكنر.

المشهد اللبناني
• كيف يقيم الدويهي المشهد الروائي اللبناني حاليا؟
كما قلت فالرواية مزدهرة هنا منذ عقود، والعديد من الأسماء يلفتون الاهتمام بلغتهم المبتكرة وقدرتهم على التجدد، وهناك جيل من الشباب يخوض غمار التجربة لكن الرواية العربية تأتينا قوية من بلدان أخرى أيضاً، من مصر بطبيعة الحال لكن أيضاً من السودان أو المغرب أو اليمن.

الرواية الفلسطينية
• ماذا عن الرواية الفلسطينية برأيك؟
أحببت المتشائل (أميل حبيبي) ودرّسته وكذلك غسان كنفاني وقرأت لإبراهيم نصرالله وسحر خليفة وأود التعرّف أكثر إلى ليانه بدر، وتعرّفت إلى كتابة انطون شمّاس وأكرم مسلّم، وما يعجبني هو قدرة الروائيين الفلسطينيين المتزايدة على السخرية وحتى السوداء منها، والخروج من الترسيمة «النضالية» كفكرة مسبقة عن الأدب الفلسطيني، وهذا ما دفع في اتجاهه محمود درويش.

فلسطين .. إجماع وعجز
• إذا ما سألنا أي مبدع عن فلسطين قد يبدو السؤال كلاسيكيا، لكنه برأيي مختلف في حالة جبور الدويهي .. ماذا تعني لك فلسطين؟
جيلنا في لبنان الذي وصل إلى سن الشباب الأول مع هزيمة 1967 وصعود حركة الفدائيين الفلسطينيين، تفاعل بشكل فائق مع القضية الفلسطينية التي هي قضية عدالة وظلم منقطع النظير وكذلك رأينا في الانتصار للقضية الفلسطينية تمرداً على الأنظمة المهزومة والمستسلمة، وقد ذهبت الأمور في جميع الاتجاهات وتشعبت القضايا سواء في لبنان أو في المنطقة لكن تبقى فلسطين نقطة إجماع وعجز في آن.

رواية جديدة
• أخيرا ماذا لديك بعد «حي الأميركان»؟
ليس أمامي سوى سحر ومتعة الكتابة، وأنا أعمل اليوم على رواية جديدة آمل أن يسعفني الوقت لإكمالها بعد عام.

ــــــــ
جبور الدويهي كاتب وروائي لبناني مرموق، من مواليد العام 1949، ترجمت رواياته إلى عدد من اللغات، من بينها الإنكليزية، الفرنسية، الألمانية، الإيطالية والتركية.
عمل أستاذاً للأدب الفرنسي في الجامعة اللبنانية، وقام بإصدار مجموعة قصصية واحدة «الموت بين الأهل نعاس»، وقصة للصغار بالفرنسية «روح الغابة».
وله من الروايات ست، هي: «اعتدال الخريف» التي حازت على جائزة أفضل عمل مترجم من جامعة أركنساس في الولايات المتحدة، «ريا النهر»، «عين وردة»، «مطر حزيران» التي اختيرت ضمن القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) العام 2008، ثم توالت نجاحاته بإصدار «شريد المنازل» التي اختيرت هي الأخرى ضمن القائمة القصيرة للجائزة نفسها العام 2012، كما حازت على جائزة حنا واكيم للرواية اللبنانية 2011، وجائزة «الأدب العربي الشاب» في باريس 2013، التي تمنح للمرة الأولى، أما روايته الأخيرة «حي الأميركان» فترشحت للقائمة الطويلة لـ»البوكر» في دورتها للعام الحالي.