تاريخ النشر: 28 نيسان 2015

الشاعر الإيرلندي مورِس ريوردِن: من زاويةِ عيني، تنسلُّ بومةٌ بسرعةِ الحُلْمِ

ترجمة وتقديم: محمد الحموي
الشِعر هنا حرٌ، إنما غير مطواعٍ بالضرورة، قائمٌ على حرفةٍ واضحةٍ، لكنه أيضاً بارعٌ في الختل. دقيقُ التوصيفِ، لكنه لا يتورَّعُ أبداً عن بعثرتكَ، مرةَ في أجواءٍ ريفيةٍ لا تحتاجُ شاطراً ليعرف أنها في إيرلندا، وأخرى في اشتغالٍ لغويٍ ماكرٍ يدعكَ تعترفُ بقوةِ الشعرِ المكتوبِ في المكاتبِ وبين المراجعِ الثقيلةِ، خلفَ كرسي جلدي أسود اللون على الأغلب.
هذه ليست مقدمة، إنما خببٌ سريعٌ نحو واحاتِ هذا الشاعر الصلد الذي يتفسَّخ شعره تحت سماءٍ «قويةٍ، حكيمةٍ وصامدةٍ في وجهِ إبتلاءات الزمن» حسب صحيفة الغارديان.
ولِدَ مورِس ريوردِن العام 1953 في مقاطعة كورك جنوب غربي إيرلندا. مجموعتهُ الشعرية الأولى (كلمةٌ من «اللوكي») والصادرة العام 1995، ترشحت لجائزة ت س إليوت.
في هذا العمل ارتكازٌ على العائلة بنزهاتها وشجاراتها وتسخيرٌ لما حولها من مفردات طعام وأثاث «وحيوانات تتناسل في الجوار المؤلم».
مجموعته الشعريةُ الثانيةُ (فيضانات) صدرت العام 2000 وصُنِّفَتْ بكتابِ العامِ في كل من الصنداي تايمز و الآيرش تايمز، وهي اشتغالٌ فلسفيٌ متقدمٌ من حيثُ تناول قصائدها لفكرةِ إيمانِ الإنسانِ بالشعرِ كشكلٍ من أشكالِ المعرفةِ وكصيغةٍ لاكتشافِ الماضي والحاضرِ في ثنائيةٍ حالمةٍ وصادمةٍ معاً.
مجموعتهُ الشعريةُ الثالثةُ (الأرض المقدسة) العام 2007 فازتْ بجائزةِ مايكل هارتنِت وفيها استردادٌ لطفولةِ الشاعرِ في إيرلندا خمسينياتِ القرنِ الماضي، وإعادةُ ترميمٍ «مترددةٍ للحظاتٍ عبرتْ بسرعةِ البرقِ» مع أبٍ وأصدقاءٍ والكثيرِ الكثير من الحقولِ والمراعي.
أاُخْتيرَ العام 2004 كشاعرِ الجيلِ القادمِ من قبل مجمَّع الشعر. يعيشُ الآن في لندن ويعملُ أستاذاً محاضراً لمادةِ الشعر في جامعة شيفيلد هالام وهو محررُ مجلة ذا بوتري ريفيو الأكثر انتشاراً في الأوساطِ الأدبية.
من مجموعتهِ الشعرية الأحدث (سارق المياه) 2013 التي تجمعُ بين الصارمِ والهشِّ، القديمِ الحالمِ والحديثِ اللاهثِ، بين عوالمَ تتدفقُ وتنسالُ وأخرى جامدةً وتحدقُ في فراغٍ، تقتطف «الأيام» خمس قصائد.

الهَدْهَدة
حَدَثَ هذا على دربِ الرمادِ بينَ الملْعبِ
والمقبرةِ ذاتَ ظهيرةٍ في أكتوبر
عندما انقَلَبتْ على ظهرها أوراقُ الحوْرِ
وبقيتْ على ماهي، تماماً كما تطيرُ تنورةٌ
ثم تعْلَقُ في هَبَّةِ هواءٍ - باستثناءِ أنهُ لم يكن هناكَ هواءٌ،
هو يومٌ من الأيامِ حيثُ دوي الكرةِ
يقفُ ثابتاً في الهواءِ الميت. لكن لم يكن هناكَ دويٌ،
لا صوتَ لبشريٍّ ولا لطير. لهذا أقسمُ لو نظرتُ
في ساعتي لتحرَّكتْ العقاربُ تواً

لأني لو نظرتُ، لأنهُ لا بدَّ أنه حانَ
الوقتُ الذي تمزَّقَ فيهِ الزمنُ بهروبهِ السائلِ
وفي تلكَ الهَدْهَدَةِ ليسَ بمقدورٍ أحدٍ أن يدخلَ العالمَ،
أو يخرجَ منهُ، تقفُ السياراتُ على أرجلها الأماميهِ على الطريقِ السريعِ،
أرْجُلُ كلابِ الصيدِ منثورةً في عُقَدٍ فوقَ السكةِ،
صاروخٌ مثبَّتٌ في منتصفِ طيرانهِ، لا صوتَ
يأتي من فمِ الطفلِ، المنقارُ المفتوحُ
وشالُ الرِنْكةِ غيمةٌ منحوتةٌ
تبرقُ تحتَ زجاجِ أسفلِ الشوارعِ التي تنتهي.

في هذهِ اللحظةِ، عندما يمسِّدُ المهرِّجُ على مفتاحِ الغرفةِ،
يمكنُ فتحُ القبضةِ الضاربةِ، عادتْ البيضةُ
لتجلسَ تحتَ الطيرِ المعششِ، وبإمكانِ كلِّ واحدٍ منا أنْ يهرولَ
ليتجنَّبَ حظاً عاثراً، أو ليستردَّ خياراً واحداً خاطئاً
قد تغلغلتْ شوكةُ عاقبتهِ في مكانها حتى الآنَ،
قبلَ أي شيءٍ يبقي العالمَ مخيفاً كما هو
بينما الحقيقةُ تنطلقُ حرةً. يديرُ سنجابٌ ذيلهُ
فوقَ رأسهِ، ثمرةُ لوزةٍ تتدحرجُ إلى الأرضِ، ومعها
صرخةٌ مسحوبةُ الهواءِ تصلُ إلى هنا من الطفولة.

ديكَةٌ روميةٌ
تطلُّ من بستانِ الفاكهةِ
هاي هي هنا يقولُ العم «نِدْ»،
ساكباً لنا الليموناده.
سيكونُ هذا صيفاً قائظاً آخر.
الطيورُ البرونزيةُ تخفضُ أجنحتها،
تحرِّكُ أعرافها وريشَ رؤوسها
مفعمةً بدمٍ قرمزي،
ترفلُ في لحمها الطري الكامل.
طباخيَ الماهر قد أصبحَ أعرج!
يرفعُ قدمهُ الملفوفة بضماد
مفردةً، ببطءٍ- ليصوِّرَ
الفلمَ القصيرَ مقطعاً مقطعاً.
في الطريق إلى «أورتولان» أسمعُ
جوقةَ الإلتهامات
تتدحرجُ عبر الحصى المعشوشبِ
من «أوفير» ناء.

الصيَّاد
مع انبثاقةِ الفجرِ، في سديمِ الصيادِ،
يَدْفِنُ أبانا البوابةَ ذاتِ الأخشابِ الخمسةِ،
ومن مخبىءِ الوزَّالِ المشتعلِ
يطلقُ الرصاصَ على البطةِ-على ذَكَرِ البطِّ، بالأحرى.
الليلةَ سيقدِّسُ طبقَ أبينا.
لم يَتَضَرَّر أحد، بما أنهُ معَ حلولِ الربيعِ
تعودُ الدجاجةُ إلى الأرضِ المليئةِ بالعَلَقِ
لتتناسلَ هناكَ مع ذكرِ بطٍّ آخر.
رأيتُ آخرَ مرةٍ تجولتُ فيها
(العريشُ الجديدُ؛ حيثُ وقفتْ المصاطبُ الخشبيةُ؛
رابيةُ القُرَّاصِ التي تغطي جُحْرَ الغُرَير)
عادتْ البطةُ مع صغارها المتقافزينَ يمنةً ويسرى
فوقَ البركةِ التي تشكلتْ بسرعةٍ، البركةِ التي كانت يوماً بحيرةً.
بطةٌ مختلفةٌ، أصححُ لنفسي.

الحَظيرة
حيثُ لم يكن هناكَ أحدٌ لأيامٍ، لشهورٍ ربما.
لا شيءَ سوى الفئرانِ تحتَ نثارِ القشِ،
السنونواتُ والريحُ التي تدخلُ وتخرجُ من القرميدِ.
بينما أخطو في الضوءِ البني الباهتِ، تَنْسَلُّ بومةٌ
بسرعةِ الحلمِ من زاويةِ عيني.
لا بدَّ أني قدْ أستوليتُ على قِرْدَةٍ شبقةٍ مسنةٍ،
أو شبحٍ قّلِقٍ يرتاحُ هنا ليقضي الليلة.
الجمجمة
(نسبةً إلى نيرودا)

لم أفكر للحظةِ حتى وقعتُ
وسمعتُ صوتَ روحي تتدحرجُ بعيداً في العتمة.
كنتُ ميتاً في نظرِ العالمِ، ميتاً تماماً-لكن ثم أحسستُ بالألم،
بالتشنجِ، بالإلتماعاتِ المؤلمةِ للأضواء الزرقاءِ اللون.
فيما بعد، تمكنتُ من انتشالِ صورةِ القمرِ من جناحِ المرضى،
بين الإغفاءاتِ التي كما لو أنها القطنُ الطبيُ المتسخ.
هذا الصباح مدتْ يدي إصبعاً مرتجفاً،
وأخذتْ بوخزِ الجروحِ والكدماتِ، حتى عَثَرتْ
على قطعةٍ واحدةٍ لم تزل مكتملةً، لم تزل صالحة للاستخدامِ: أنتِ، أيتها الجمجمةُ المسكينةُ-
كم دونَ جدوى عبرَ السنينِ، بصخبٍ، بحثاً عن ضحيةٍ،
قد فحصتُ كلَّ شَعْرةٍ، فتشتُ كلَّ لمحةٍ،
لكني لم أنتبه للعنصرِ الأصل-قُبَّتكَ الوسيمةُ

تجمعُ أوعيةَ خلايا الدماغِ الهشةِ
والدروبَ، المعابرَ المتشابكةَ المستحيلةً،

كل تلكَ الكيمياء النباتيةِ التي تتفتحُ ببطء
محيطٌ صغيرٌ جداً يطلقُ فيهُ المنطقُ رصاصاتٍ لامعةٍ

وحيثُ، بينَ نباتِ حُطامِ البحرِ وسِعَفِ الطفولةِ،
سمكُ نبالِ الإرادةِ الآن هنا، الآن هناكَ...

حيثُ أيضاً، مَنْ يدري، تتوارى عن الأنظارِ روحي الخجولة.
لمسٌ خفيفٌ، نَقْرٌ! يا آدم، استيقظْ!

أنا قاطعُ الحَجَرِ وقد تخلصتُ على جانبِ الهضبةِ
من الأشجارِ ومن أنشودةِ الطيرِ الذي ينحني للرخامِ الموثوقِ.

أو فاتحُ الخزنةِ على ركبتهِ في غرفةِ المالِ، أذنهُ
على البابِ الفولاذي، مرتعشاً خوفاً ألا يفتح.