فارس سباعنة
اعتادت العملية التعليمية في الدول العربية على تلقين طلاب الصفوف الثانوية «أجمل» ما قالت العرب في وصف الخيل أوالدموع أو غيرها، ولأنّ الجمالَ ليسَ من قيمنا الأخلاقية أوالقانونية، فلا يضيرنا شيءٌ أن يُلقّن الجمال في المدارس تلقيناً، على العكس فإنّ ذلك يريحُ الأنظمة الاجتماعية والسياسيّة والدينية من عبء المتأملّين والمفكّرين الخارجين على النظام.
لقد اخترتُ هذا المدخل للحديث عن ديوان الشاعرة «جمانة مصطفى» بوصفه اقتراحاً أصيلا للخروج على النظام الخطابي المُكرّس حتى في الشعر، فغالبية اتجاهات المشاريع الشعرية تذهب نحو التعبير عن الضجر من الخطاب (بمعنى كسر السياق الخطابي المعتاد) وذلك جميل.
وبالنسبة للشاعرات يكون التعبير عن الرغبات والآلام والأحلام بلغة وصفية في حال كانت الشاعرة جريئة، لكنّ ما قرأتُهُ في ديوان جمانة مصطفى كانَ تأصيلاً لقيم أنثوية ظلّت حبيسة لأحاديث النساء السرية بصفتها كفراً بالنظام الخطابي العلني.
ففي قصيدتها «الغابة» تتجرأ جمانة مصطفى على تبنّي غريزة «القتل» لدى النمور، لكنّها لا تستخدمها في سياق الانتقام أو الثأر أو المجد والرغبة بالسلطة (السياقات الذكورية) بل تقول «لم أشرب روحاً من عنق»، فهي تعود بالقيم الإنسانية إلى وصفها الطبيعي المبني على أساس الحاجة الأساسية لهذه النمرة «لم أقتل ليومٍ كاملٍ»، كما تقيّم النمر الذكر «بأنه ليس نمراً حين لا يتعارك لأجلها ويجهلُ عن نفسِه نفسَهُ»، على الرغم مما يشكّله هذا الخروج اللفظي من نوازع إجرامية قياسا مع السياق الخطابي المعتاد فمن سمعَ قبل ذلك عن «شرف المفترس»؟
ربّما كان المصطلح عادياً لو ظلّ وصفاً مباشراً للحياة الحيوانية، لكنّ عبقرية النص تظهر في إسقاطاته السياسيّة والاجتماعية لكل من الغابة والقفص من خلال تعريفهما بمحورين متوازيين، وبين استخدام الحيوانات لتمرير الأوصاف الإنسانية، واستخدام الأوصاف في السياقات الشعرية، وتتجلّى أنوثة هذا التعبير غريزيا وسياسياً واجتماعيا بوصفها الأسد الجميل، صاحب رائحة الذكر العظيم، حيثُ اعتادت ألا يراها أحد حين تشمّ العشبَ حيثُ ينام، لأنّها ليست من إناث الأسود.
ومع أن قصيدة الغابة هي الأكثر تركيزاً للفكرة المتمردة وتستوعبُ أكثر من الإشارات المذكورة، لكنّ من يقرأ قصائد الديوان الأخرى يعود لقراءة الغابةَ بعد ذلك بمساحات رمزيةٍ أوسع، ففي قصيدة «المدينة- جيوش الممسوسين»، حيثُ تنظر جمانة مصطفى إلى مخلّفات الأنظمة السياسية والاجتماعية في العواصم العربية، بعتبٍ وغضبٍ وعجزٍ وإشفاق وسخرية، كما تظهر المقارنة بين الخطابين الذكوريّ والأنثويّ في قصيدتها : هذا البيتُ ينقصهُ كلبٌ، وذئبٌ ينغص عيشة الكلب، وخروفٌ يعطي لحياتهما غايةً، وراعٍ يظنّ نفسَهُ فوقَ الجميع… وهذا البيتُ تنقصُهُ دجاجةٌ، وديكٌ يحبّها، وعشرة صيصانٍ تختفي خلفَ الأريكة، فهي لا تريدُ اللغةَ الجمالية المهترئة التي تكتظّ بها قصائد الشعراء، الفراشات، النايات، والينابيع الرقراقة بل تقول: نريد كأساً جديدة لنعيشَ ساعةً أخرى.
تمرّدٌ هائلٌ في هذا الديوان، تمرّدٌ على الرجال وعلى النساء من امرأةٍ تشمّسُ قصصها على الشرفة، وتلقي صورَها لمراهق الحيّ الخجول، وتتركُ قميصَ نومها الأحمر يرفرفُ في وجه الزوجاتِ الفاضلاتِ كعلمٍ للحرية.
وتبالغ جمانة مصطفى في اقتراح نموذجٍ أنثويّ جديد للمرأة العاشقة أو ربّما هي ثقةٌ أستهجنها كرجلٍ شرقيّ وهو نموذج مختلفٌ سمته «الشاعرة العاشقة» التي تعشقُ بدراية ورويّة وفطنةٍ ورسوخ، أعتقد أنها ثقة مفرطة.
ممتعة جداً هي الإسقاطات السياسيّة في أدقّ خصوصيات الأنثى التي وجدتُها في معظم قصائد الديوان، يحلمُ الكتابُ بخطابٍ اجتماعيّ جديد، خطابٍ صادقٍ طيّبٍ حرٍّ وعلنيّ للنساء والرجال، بين قصائد ترتفعُ فيها لغةُ المرأة العاشقة أو الغيورة أو الخائبة بينما الأمل بالسعادة موجودٌ دائماً ولو بتلميحِ ساخر، وبين تمرّدٍ قاسٍ وجريء على القيم المزوّرة التي تبلسُ عباءات العفّة والأخلاق والمواطنة الحسنة وتبطن كلّ شرور العالم، بذكاءٍ شديد وتواضعٍ شديد أيضاً، فلا تنظير في الكتاب هي تجربةٌ إنسانيةٌ تعكسها الشاعرة بشكل تلقائيّ وشعريّ.
ملاحظة: ليسَت هذه المادّةُ نقداً أدبياً، هي محاولة لقراءة قيم إنسانية ثمينة في ديوان شعر.