تاريخ النشر: 21 نيسان 2015

يرى في «فئران أمي حصة» تعبير عن خيبة جيل عاش «العروبية» بتجلياتها

الروائي الكويتي سعود السنعوسي لـ "أيام الثقافة": لا أتنبأ بل أحذّر .. وأردت قول ما لم يُقَل

حاورته بديعة زيدان:
منذ أن خرجت رواية «فئران أمي حصة»، قبل قرابة الشهرين، للروائي الكويتي سعود السنعوسي، الفائز بالجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) العام 2013، وهي تثير الجدل تلو الآخر، وتحقق مبيعات كبيرة خارج الكويت على وجه الخصوص .. رواية يمكن القول إنها جريئة وقاسية من فرط العشق للوطن، وتحمل الكثير من الرسائل بعبقرية سردية ولغوية لابد من التوقف أمامها، وفي ربط للأحداث مذهل ما بين ماضٍ مؤلم، ومستقبل قد يكون أكثر إيلاماً .. مع السنعوسي، وحول «فئران أمي حصة» كان لـ»أيام الثقافة» الحوار التالي:

• بداية حدثنا عن حكايتك مع «فئران أمي حصة» .. كيف جاءت الفكرة وكم استغرقت الكتابة؟

استغرقتني الرواية كتابةً سنتين وتسعة شهور، بدأت فيها مباشرة بعد رواية «ساق البامبو»، ولكنني توقفت لأبدأ بأكثر من مشروع روائي كتبت منها أجزاءً هربا من حِصَّة وفئرانها، لم يستمر الأمر طويلا حتى اتخذت قراري بالعودة إلى روايتي المؤجلة «فئران أمي حِصَّة»، لأن كل المؤشرات تدفعني لكتابة العمل وأنا أرصد احتقاننا الطائفي وقد وصل حدًّا لا يمكن لأي عاقل أن يتجاوزه، ورغم كل ذلك، أشعرني بأنني تأخرت جدا في الكتابة.

• فكرة الرواية شجاعة وجريئة، هل كنت متخوفاً من شيء أثناء الكتابة وهل سنرى من الآن فصاعدا طرق أبواب ومواضيع أكثر جرأة وحساسية؟

لم أعد أرى أية جرأة أو شجاعة في طرح أية فكرة أريد كتابتها وأنا أتابع كل التابوهات تتكسر في مواقع التواصل الاجتماعي ويتداولها الناس علانية. لا أرى شجاعة أبدا في أن أطرح موضوعا نعيشه منذ سنوات لا يكرِّس شيئا عدا الغل والكراهية في النفوس.
حتى بعض الأجزاء التي تعاملت معها بحساسية في الرواية هي في الأساس ممارساتنا اليومية، وعرض لأنماط تفكيرنا وسلوكنا، لا أعرف حقيقة لماذا يصبح الأمر جريئا إذا ما طرح في عمل أدبي، في حين أنه يجري حولنا إلى درجة يبدو فيها كل شيء عادياً ومبرراً. بأمانة لم أشعر بخوف تجاه أي شيء أثناء الكتابة إلا خوفي من نفسي؛ أن أتحيَّز من دون وعي لطرفٍ على حساب آخر.

• في ثمانينيات القرن الماضي وأثناء الغزو العراقي للكويت كنت طفلا، هل لتبعات وانعكاسات الغزو وما سبقه وما تلاه ما شغل طفلاً صغيراً في مثل سنك، آنذاك؟

نعم من دون شك. وقد استغرقني الأمر طويلا وقراءات كثيرة لأستوعب ما جرى، وربما أنا محظوظ لأنني استطعت أن أتجاوز الكثير مما علق في الذاكرة من تشوهات. تبعات الاحتلال لم تقل عن الاحتلال ذاته مع الأسف، ليس على الكويت وحسب، إنما على العالم العربي برمته.
كل هذا التشظي الذي نعيشه اليوم، وما في النفوس تجاه بعضها من كراهية، كان جزء كبير منه بسبب حسابات سياسية كبرى لم يدفع ثمنها إلا الشعوب. ما زلنا اليوم جميعا، وبعد مرور خمس وعشرين سنة، ندفع ثمن خطيئة النظام العراقي السابق. هذه ليست وجهة نظر كويتية فقط، حتى من كان محسوبا على النظام العراقي يصرح اليوم بأن ما حدث غلطة ما كان ينبغي لها أن تحدث.

أسلوب سردي مبتكر

• أسلوب ال "سرد جديد" ومبتكر حيث إنك ذهبت إلى ما بعد 2015 ولكنك لم تذهب بعيدا بل كانت التنبؤات في إطار خمس سنوات فقط، هل ترى المستقبل القريب المقبل مدمرا وصعبا بالشكل الذي أوردته في الرواية؟

الأمر ليس كما يظنه البعض تنبؤا لما سوف يجري بقدر ما هو تحذير مما قد يحدث إن بقينا على حالنا هذه نؤجج الخلافات في ما بيننا، ويحارب واحدنا الآخر ويصادر منه مفتاح الجنة ليحتفظ به لنفسه. واختيار الزمن 2020 في الرواية لا يعني شيئا على الإطلاق.
أنا أتحدث عن شكل المستقبل وليس بالضرورة أن يكون محددا بالسنة المذكورة في الزمن الافتراضي في الرواية. ما تقوله الرواية هو أن الدمار قد يجيء بأسرع مما نتصور، كما أن اختيار السنة 2020 جاء لأسباب فنية في الرواية حيث إنني لا أستطيع أن أذهب إلى سنوات أكثر بعدا، إذ حينها سوف يكون أبطال العمل «أولاد فؤادة» في سن كبيرة ربما لا تسعفهم للقيام بنشاطهم الوطني كما هم في سن الثانية والأربعين، في جزء الزمن الافتراضي من الرواية.

• روايتان في رواية، كيف جاءت هذه الفكرة وما الذي حاولت إيصاله للقارئ العربي؟

الذي حاول سعود أن يوصله هو ما قاله في «فئران أمي حصة»، لا يمكنني اختزال الفكرة في إجابة. أسباب كثيرة دفعتني لكتابة الرواية، وحده القارئ سوف يتوصل إلى بعضها بالقراءة، وقد يتوصل إلى كلها إذا ما أجهد نفسه في فك رموز جاءت بصورة سطحية بعكس ما ترمي إليه في العمق.
الذي أعرفه أنني طوال فترة الكتابة كنت أشعر بحاجة ملحّة لأن أصرخ وأدين الجميع، إدانة جمعية، على كل ما وصلنا إليه بسبب قصر نظرنا. ليس الأمر مقتصرا على التحذير مما قد يجيء، إنما أريد لأبناء جيلي ومن هم أصغر أن يقرؤوا تاريخهم الذين لا يعرفونه، أو الذي يعرفونه بصورة مغايرة. أردتُ أن أقول كل ما لم يقل، أدبيا، على أقل تقدير.

وجع كبير

• أثناء قراءتي للرواية شعرت كم انت موجوع مما حدث، فمثلا العائلة الفلسطينية «عائلة الزلمات» التي طردت من الكويت بعد الغزو العراقي كانت حاضرة كما هي المشاكل التي استجدت بين الجيران بسبب المذاهب والملل .. هل هذا موضوع أزعجك إلى هذا الحد حتى يكون موضوع روايتك؟

ليس مزعجا وحسب، بل هو موجع إلى حدٍّ لا يحتمل. أليست موجعة خيبة جيل بأكمله نشأ نشأة عروبية صُفِع بكفٍّ عربية؟ لعل الوجع هو أول أسباب الكتابة.
كل التفاصيل التي جاءت في الرواية حقيقية، لم يسعفني خيالي لتزييفها. ألا تزعج خسارة الجار الذي راح ضحية لموقف نظامه؟ .. ألا يزعج تعليب البشر وِفقا لمواقف أنظمتهم؟ ألا يزعج أن تُسمم حياتنا بأدق تفاصيلها بالأمور الطائفية البغيضة؟.
كل هذه الأشياء تزعجني وتزعج أي إنسان يريد أن «يعيش» بشكل يليق بإنسان. يزعجني التغيير الجذري الذي طالنا بعد الغزو، وحين أقول طالنا أنا لا أشير إلى الكويتي وحسب، أنا أتحدث عن الكويتي والعراقي والفلسطيني، وكل الشعوب التي تضررت ودفعت ثمن اللعبة السياسية، ولعل هذا ما ترصده الرواية بشكل غير مباشر.

موت الأم أو الجدة

• موت الأم أو الجدة حصة في فترة الغزو وهي الأم والجدة المناصرة دائما للقضية الفلسطينية، لم يأت اعتباطياً، مع أنني كنت اتوقع ان تبقى هذه الشخصية إلى النهاية كونها شخصية اساسية في الرواية؟

لو كان الأمر بيدي لكتبتُ لها خلودا يليقُ بها، ولكن الحقيقة ليست كذلك. أمي حِصَّة العجوز العروبية البسيطة المتسامحة ماتت في الوقت الذي يجب أن تموت فيه لسبب؛ أنها تمثل القضية العربية التي بدأ مواتها في سنة 1990، وقت الغزو، حين فقد جيلٌ بأكمله ثقته في كل ما هو عربي رغم نشأته العروبية الخالصة.
حين صارت أميركا هي المخلّص والمنقذ والبطل، لا مكان لأمي حِصَّة في هذا العالم، كان من الضروري أن تموت نظيفة قبل أن تشهد زمنا اتسخ فيه كل شيء. لم أستطع أن أمدَّ في حياة أمي حِصَّة لأجعلها تشاهد حفيدها يستخدم كلمة «عراقي» كشتيمة، أو أن تحضر زمنا يُطرد فيه جيرانها الفلسطينيون الذين كانوا جزءا من الشارع بكل أطيافه، أمي حِصَّة ماتت في الوقت الذي يجب أن تموت فيه، احتراما لها وخوفا عليها من فجيعة ما صرنا إليه.

• كأنك تقول في روايتك إن جميع الأطراف مظلومة سواء الكويتي أم العراقي أم الفلسطيني وغيرهم .. من الظالم إذن؟
بالطبع الشعوب هي المظلومة أولا وأخيرا، ولكنها ظالمة في الوقت ذاته. ظالمة من دون وعي. الشعوب التي تدفع الثمن اليوم هي نفس الشعوب التي تغنَّت بالطغاة منجرّة وراء المكنة الإعلامية، الفلسطيني الذي انساق إلى تصريحات النظام العراقي حول حرق نصف إسرائيل وربطه لشرط انسحابه من الكويت بانسحاب إسرائيل من فلسطين يشبه الكويتي قبل سنة 1990.
لا أبرئ أنفسنا نحن أيضا، ففي الكويت شأننا شأن الكثير من الشعوب الأخرى، رئيس النظام العراقي السابق كان سيف العرب وحامي البوابة الشرقية كما تشهد أغنياتنا التي رددناها لسنوات طوال، وهو الشخص نفسه الذي صار شيطانا بأغنياتنا وإعلامنا ومناهجنا. الأمر ينطبق تماما على أميركا وافتتاننا بالغرب منذ تحرير الكويت من قِبَل قوات التحالف الدولية، صار الغرب بقيادة أميركا هو الملاك الحارس، ومن يدري غدا ماذا يكون؟ ومتى سوف يتشيطن هذا الملاك في وعينا؟ .. نحن شعوب لا تتعلم، حتى يومنا هذا على الأقل.

ناقوس الخطر

• دققت ناقوس الخطر في «فئران أمي حصة»، وكأنك تقول للجميع انتبهوا من القادم، هل تلمس خطراً حقيقياً بدأت تظهر ملامحه على أرض الواقع؟

ما ظهر حولنا يتجاوز كونه مجرد ملامح، نحن أمام كوارث كاملة الظهور، والغريب أننا لا نزال نحسب أننا بمأمن ومعزل عن كل ما يجري حولنا. الرواية تقول ما قالته فؤادة في مسلسل تلفزيوني قديم: «الفئران آتية.. احموا الناس من الطاعون!»، ولكن الواقع أن الفئران أتت، ومنذ زمن بعيد، وها نحن اليوم نعيش عصر الطاعون، لا يحتاج الأمر سوى شيء عدا التفاتة سريعة إلى ما يجري في العالم العربي، خصوصا في السنوات الخمس الأخيرة، في العراق وسورية وليبيا واليمن، وغيرها من دول مضطربة.