أصعب ما في الترحال، لحظة الإياب..
مزيج من المشاعر تتأجج، وتقف الروح حائرة، بين الـ»هُنا» والـ «هناك»، فبقدر حنيني الى عمان، وثرى الأردن، أشعر في رام الله، برابط حميمي، وجداني، تنمامى مع هذه الرحلة الحلم، المتمناة!!
لحظة الإياب، ليست مفارقة زمنية، بقدر ما هي حالة مراجعة، وتعايش، وتخطيط لما هو آت، وقد كنت أحسب حساب هذا الموقف، ذلك أن تحقق الحلم، يوقع الحالم في حيرة من أمره فيما بعد ذاك التحقق، حين يكون الإياب، الى المكان الذي جئت منه، ولذا فقد تهيأت لي الأسباب، والظروف، لأن تتنامى أحلامي، وأمنياتي، من خلال فترة ترحالي في فلسطين، وهي ليست كل فلسطين التي حلمت بأن أزورها، لكنني منذ وصلت الجسر، تنامى لدي حلم بأن تكون الزيارة القادمة، بتحرر الجانب الآخر من الجسر، والضفة الغربية من النهر، ثم حين وصلت استراحة أريحا، سجلت في أجندة ترحالي القادم تطواف حميمي في مدينة أريحا، لرؤية تلك الذاكرة المختزنة فيها، وذاك التاريخ العميق حتى بداية الاستقرار الأول للإنسان، وفي رام الله، ومضت في الذهن مدينة غزة، وقلت سأكون على شاطئ بحرها ذات زمن قادم، ولما وصلت حاجز قلنديا، ومنعوني من الدخول الى القدس، ترسخ عندي اليقين، بأن هذه لن تكون الرحلة الأخيرة لي، فلا بد من أن أطرق أبواب القدس، وأعيش حالة التقرب زلفى من دروبها، وحجارتها، وأزقتها، وأمكنة القداسة فيها.. والحلم في فلسطين لا يقف عند حاجز بناه محتل، أو معبر شيده غريب على هذه الديار، وقد قلت حين كنت أمام الحرم الإبراهيمي في الخليل، إنني سآتي مرة أخرى، لأرى ما تبقى من المسجد الذي قسّمه الغزاة ليفصل بين النبي الأب وابنه الذي يجاوره في المكان، وقطعت عهدا على نفسي بأن أعود الى ذاك الطفل الخليلي لأرى كيف ستصقله الخطوب ليكون بطلا، محررا، يعرف كيف يخترق كل إشارات التحذير، ليكون في كل الأوقات متماهيا، قريبا من دروب أرضه، وشوارع الخليل العتيقة.
الزيارة القادمة
وأنا أحزم حقيبتي لأعود الى عمان، كان قلبي يُرتّب الزيارة القادمة الى نابلس، حيث سأمر على طائفة السامريين في جبل جرزيم، وأتجاذب معهم أطراف الحديث، وسأتفقد أحوال الأسير المناضل الشاعر باسم الخندقجي، قبل أن أتحلى من كنافة الأقصى، وأشتري رواية مقرصنة، من المكتبة الشعبية، رغم حواجز القهر الثقافية والسياسية، وسأطيل التجوال بين جرزيم وعيبال، وأطوف على محيط نابلس، وقراها.
وأنا أحزم حقيبتي للعودة، كنت أفكر في حق العودة، وأتساءل من أين أعود، وإلى أين أرجع، فكلاهما (الأردن وفلسطين) نبض واحد.. ولي حق في العودة أيضا، متى شئت، الى هنا، كما لأصدقائي، وإخواني الفلسطينيين، أليس حالنا معا: «يا شقيق الروح من جسدي»!!
ليلة السفر، كنت أفرغ بعض ملاحظاتي في باحة الفندق، وكانت أرجيلتي تتعالى نيران جمرها، وصخب الماء فيها، أنين، وأنا أكتب عن صديقي أكرم الحمري، وإقامتي في بيت تعمر، والأصدقاء الأحباء هناك، وأدون مشاهداتي عن الفريديس، والخضر، والجنة المغلقة، حين استفقت من غيابي هناك، على يد تربت على كتفي، وانتبهت الى «أبو أندريه»، صاحب الفندق الطيب الذي أسكن فيه، وجلس بجانبي، وسألني عن انطباعاتي حول فلسطين، فصارحته بوجعي، وهو الجميل بحضوره، حيث أنه ما ان اكملت كلامي، حتى وجه لي دعوة لزيارة باقي فلسطين، في الجزء الآخر منها، حيث يافا وحيفا والقدس وكل ما تبقى منها، ورحبت بدعوته، مع شكري له، غير أني قلت له أني لا أستطيع الدخول الى هناك، فأي تصريح أحصل عليه، لن يتيح لي إلا التحرك في الضفة الغربية، فقط، ومدن الجبال هذه التي سرت فيها، أو أن أغامر، وسأغامر، بطرق أخرى لأدخل مدن الحلم في فلسطين، مع الحفاظ على عهدي لنفسي، بأن أبقى مخلصا لميثاق الشرف مع حق الفلسطينيين.
جدار الفصل العنصري
تزدحم الافكار، والتفاصيل آخر ليلة، وهنا في ليل رام الله، أتذكر جلستي مع زياد خداش، ومدير المدرسة الاستاذ ياسر، وطلابه، حيث جاءني زياد صباحا، وانتقلنا بالتاكسي الى مدرسته التي يعلم فيها «مدرسة أمين الحسيني»، ثم كان اللقاء ساعة مع طلابه في نادي محمود درويش، وكان الحوار رائعا، وتشعبت الأحاديث، وبقيت أغالب دمعة في عيني، وأنا أرى أطفالا بعمر الورد، ولكن طموحاتهم، وأحلامهم، وكلامهم، أعمق، وأكبر، من كثيرين طاعنين في العمر.
تتداعى في مخيلتي صور قاتمة للجدار العازل الذي كان ممتداً كما الأفعوان يحيط الكثير من الأماكن والمدن التي زرتها، هذا الجدار (جدار الفصل العنصري)، جدار طويل ممتد تبنيه اسرائيل لمنع دخول أبناء الضفة الغربية الفلسطينيين الى الأراضي المحتلة، أو المستوطنات الاسرائيلية القريبة من الخط الأخضر، وقد وجد هذا الجدار لاعاقة حياة الفلسطينيين.
مشيت قرب هذا الجدار، أثناء تجوالي، ورأيت فيه كثيرا من الحواجز، والجنود، وأبراج المراقبة، والأسيجة، والجدران، والدوريات، حيث تشير الكتابات حول هذاالجدار الى أنه تم البدء فيه عام 2002م، في عهد حكومة ارئيل شارون، حين كانت انتفاضة الأقصى، وهو يمتد مئات الكيلومترات، التي بنيت على مراحل، حتى بلغ طوله عام 2009م 730كم.
هذا الجدار فيه مجموعة من البوابات في هذا الجدار، وقد هدمت بيوت كثيرة، وشلعت آلاف الأشجار، في الأراضي التي يمر منها، لكن ما لفت نظري، أثناء تجوالي، وقراءتي، حول جدار الفصل العنصري، هي الاساليب التي اتبعت تنديداً بهذا الجدار، ومنها احداث ثغرات في الجدار، والمحكمة الدولية، غير أن تلك اللوحات والألوان المنتشرة في مساحات متعددة من الجدار، توقفت في تأملها كثيراً، وقد رسمها فنانون فلسطينيون، وناشطون عالميون، عبروا من خلال الصورة والكلمة واللون عن وحشية الاحتلال وروحه الشريرة.. وفي احدى المرات، عند مساحة رسم عليها لوحات متعددة وضخمة، وفوقها مباشرة هناك برج مراقبة عسكري، سألت من كان يرافقني؛ كيف أمكنهم الرسم على الجدار المزروع بالابراج والجنود والكاميرات؟ وكانت الاجابة تفاصيل عن مخاطر كثيرة، غير ان ارادة الشعب وصاحب الحق تتحدى، وتريد ان توصل الرسالة ولو بالكلمة والصورة وأي سلاح يعبرون به عن رفضهم لهذا الجدار الذي بناه الاحتلال.
تراب.. وكوفية
صباح السفر.. كنت أنتظر سامح خضر، الذي سيرافقني الى عمان، حيث سيستقبل هناك الصديق الشاعر التونسي الصغير اولاد أحمد، وكنت هيأت حقيبتي حين رن باكراً الهاتف، وكان زياد خداش، نظرت من نافذتي، وهو يحدثني مشيراً لي بالنزول اليه.
صافحته، وهو يقول «تنفس عبير فلسطين صباحا، ولنمش قليلاً في الشارع الذي كان يمشي فيه محمود درويش»، وأعطاني كوفية فلسطينية، وصندوقا خشبيا صغيرا في تراب، وقد كنت قلت له في أول يوم وصلت رام الله، أن ابنتي طلبت كوفية وحفنة من تراب فلسطين. هو لم ينس، وقال وهو يعطيني اياها، قل لشهد هذه هدية من عمك زياد خداش.. حضنته، تلك اللحظة، وودعته، هذا الصديق الشفاف المبدع النقي الجميل.
«هذا.. من خِير البلاد»
المسافة بين رام الله وأريحا، حملت لحظات صمت، عدت فيها الى أصدقاء لم ألتقهم، وقد كانت الزيارة سريعة، لم اتمكن من لقاء محمود شقير، وكنا اتفقنا على زيارة أحمد دحبور، فلم يسعفني الوقت، واتصل بي مراد السوداني، لكني كنت في الخليل، وكان من المفروض أن أتصل مع يوسف المحمود، ولم يحدث هذا، كما أن هناك أصدقاء كنت أريد توديعهم، والجلوس مرات كثيرة معهم، لكن داهمتني لحظة العودة، وكان سامح يحادثني بين لحظة وأخرى، فأحدثه بهذا الشوق، فيقول: لن تكون هذه الزيارة الأخيرة لك، ستأتي وتحقق كل مشاريعك.
وصلنا استراحة أريحا..
عند الباصات التي ستقلنا الى جسر الملك حسين، مئات من جالونات الزيت، والأرض لزجة من كثرتها.. في هذه اللحظة، وقد مررت على بساتين الزيتون، عرفت معنى كلمة الفلسطينيين البعيدين عن ديارهم، وهم خارج فلسطين، حين يقولون بحميمية عالية؛ «هذا من زيت البلاد»، و»هذا من زعتر البلاد»، و»هذا من خير البلاد».. ياه ما أجمل تلك البلاد.
سُلالة الفينيق
ودعت البلاد..
تجاوزت الجسر، وفي الشونة الجنوبية، كانت هناك سيارة تنتظرنا، وفاضت الروح بالحنين الى عمان، كما هو الشوق لكل مدن فلسطين.. ورفرف طائر الفينيق بجناحيه قربي، وكأنه يريد أن يقول شيئاً، يريد أن يهمس لي: ستعود مرة أخرى، وأخرى. فجناحاي جسر بين الضفتين، ومظلة للأردن كما فلسطين.. ستعود.
همست له بشوقي: سأعود مرة أخرى الى تلك البلاد، بلادنا فلسطين، ومعي ابريق زيت من الطفيلة لأنير به فانوسا في الحرم الإبراهيمي، وأحمل عنبا من عجلون لأعتقه في أديرة بيت لحم، وأوقد مشعل نار من الكرك، أتوق لأن أعلقه على ذرى جبال نابلس، وأجدل سنبلة قمح من إربد لأقدمها لعيني جنين، سأحمل كل هذا وأكثر، وأصافح كل أصدقائي الذين عرفتهم، وكذلك الأحباء الذين لم ألتقهم، هم مني، وأنا منهم، جداً وراء جد، سلالة كنعانية الجذور، نبطية المجد، عربية الهوى.. ها أنا أقترب من عمان.. وأرى الفينيق، وقد صار جناحاه نجمتين، واحدة تومض فوق عمان، تقابلها أُخرى تتلألأ في فضاء القدس.. وبدأت ما ان وصلت أكتب «سماء الفينيق: الأردن..فلسطين»!!