في زيارته لفلسطين تجول الكاتب الأردني مفلح العدوان في مدن الجبال الفلسطينية الخمس من نابلس حتى الخليل مرورا برام الله وبيت لحم والقدس، عبر تحت أقواس قصبة نابلس واتكأ على السور في كنيسة المهد ووقف أمام مقام إبراهيم الخليل، وصعد الدرجات المضاءة لمتحف محمود درويش وحديقة البروة المطلة على القدس.
مفلح العدوان كتب رحلته على حلقات سننشرها تباعا في «الأيام الثقافي»، وفيما يلي الحلقة الحادية عشرة.
غ.ز
مشرق هذا النهار، وأنا مشبع بطاقة روحانية عالية، حيث يممت شطر بيت لحم، باكرا، فهذا يوم تتبع الأنفاس الأولى للمسيح، تلك التي بدأت البشرية معها تتلمس جغرافية الروح، وتناجي نبض التسامح.
مشرق هذا النهار، وكأن مخطوط الزمن ينادي بفيض القداسة فيه، لأراه، وأقرأه، وأدونه على صفحات القلب بكل فسيفساء تفاصيله.. وكان احتفاء طيب بي منذ أن وصلت ساحة المهد، ومعي رفيقي أكرم الذي لا يفتأ يعرفني بكل محبة للمشرفين على المكان، والكهنة، وكل من يلتقيهم، وكان من حسن طالعي أن رافقنا أحد الشباب المسؤولين عن مرافقة السياح والحجاج الى كنيسة المهد، لا أتذكر اسمه الآن، لكنه مدعاة للفخر بعمق معرفته، وسلاسة تعامله، وقوة شخصيته، وهو في العشرين من عمره.
عمود الأمنيات
وإذ تأتي الكتابة بعد فترة من تلك الزيارة المشربة بالتاريخ والقداسة، تكون الحيرة في ترتيب ما تمت مشاهدته، ومعاينته، والمرور عليه، فكنيسة المهد، بكل ما فيها، تحمل أهمية ودلالات كثيرة، وكل شبر أو ذرة تراب داخلها، وفي محيطها، تجد لها قيمة عليا، وترى هناك تنظيما، وتوزيعا، لمساحات الكنيسة بين الطوائف، حيث كل طائفة مسيحية، لها جانب لا تتعدى عليه طائفة أخرى، وتقوم على خدمته، وتأدية الطقوس فيها.
كل شيء أراه بعين مختلفة، والشاب التلحمي الذي يرافقني، لا يتوقف عن التعريف بكل زاوية أمر فيها، والبدء من الأبواب، التي أغلقت وبقي باب واحد للكنيسة، ومن ذاكرة المكان هنا أنه تم تصغير مدخل باب الكنيسة في القرن العاشر لمنع دخول الجياد والحيوانات إلى داخلها، إذ إنه كان في الساحة الأمامية للكنيسة، تأتي القوافل، وفيها الجمال، التي كانت تدخل حرم الكنيسة، لذا تم اختصار الباب إلى ارتفاع لا يسمح بدخول تلك الجمال، وهناك رواية أخرى تشير إلى أن هذا له علاقة بالتقدير والقداسة للمكان، حيث كل من يلج حرم الكنيسة، ويقترب من موقع ميلاد السيد المسيح، لا بد وأن ينحني احتراما وتقديسا.
هذا الوقت الذي دخلت فيه كنيسة المهد، كان يتم فيها ترميم لأكثر من موقع فيها، ولذا فدروب التجوال فيها اختلفت عن المعتاد، لكنني وقفت متأملا الفسيفساء على أرضية الكنيسة، وعند أحد الأعمدة، التي قال لي دليلي، إن هذا العمود له بركة خاصة، حيث إن كل من يمر هنا، يصافحه في مكان الأصابع فيها، و»يضمر» الزائر في هذا الموقع أمنية، وفعلت هذا، وكانت الأمنيات كثيرة التي «ضمرتها»، على أمل بأن تتحقق، وأولى الأمنيات، تحقق الحرية والاستقلال الكامل لأرضنا فلسطين.
كنيسة المهد
أسير في كنيسة المهد، ها أنا في إحدى أقدم الكنائس في العالم، قدسيتها في أنها بنيت فوق مغارة الميلاد التي تعتبر من أقدم وأقدس البقاع بالعالم المسيحي بعد القبر المقدس، كونها مكان ولادة السيد المسيح.
تقع مغارة الميلاد، تحت سطح الكنيسة، ويبلغ طولها (38) قدما، وعرضها (11) قدما، ولها مدخلان، وتضاء المغارة بـ48 قنديلا، حيث يوجد فيها مكان ولادة المسيح والمذود، وتقام هناك احتفالات عيد الميلاد التي تبث إلى جميع أنحاء العالم.
وقال لي دليلي، أما بالنسبة للبناء الأصلي لكنيسة المهد، فقد شيدته الملكة هيلانة والدة الامبراطور قسطنطين في القرن الرابع ميلادي، وقام الإمبراطور جوستينيان بإعادة بنائها بشكلها الحالي في العام 540 بعد أن هدمها السامريون، وأقام لها ثلاث حنيات على شكل صليب.
وقال أيضا إنه يبلغ عدد الأعمدة في ساحة الكنيسة (48) عامودا من الحجر الوردي، ومستوى أرض الكنيسة منخفض 60سم عن الأرضية الحالية، ويقع فوق المغارة مبنى مثمن الشكل، وعلى جانبيه غرفتان مستطيلتان إحداهما تستخدم دياكنيون، والأخرى لمائدة المذبح، ويقع المذبح الرئيس حيث يقيم الروم الأرثوذكس احتفالاتهم الدينية.
الأديرة
مرافق الكنيسة كثيرة، بعضها رأيته، وجزء منها لم أستطع الوصول إليه، إذ إنه يوجد للآباء الفرنسيسكان دير يقع في الجهة الشرقية، وبقربه فندق لإيواء الحجاج والزوار، وهناك دير الروم الأرثوذكس الذي يقع فوق مغارة الميلاد التي فيها الهيكل، الذي واجهته من الخشب المحفور يدويًا، وفي شرق الساحة تقع كنيسة صغيرة مكرسة باسم القديس جريس وقد بنيت مع البرج في الفترة الصليبية (القرن الثاني عشر)، كما يوجد في الساحة بئر ماء قديمة.
وقال لي دليلي، إنه يوجد أيضا دير الأرمن الذي يقع إلى الجنوب الغربي من كنيسة المهد، عند الحنية الشمالية، ويوجد في جدران الدير بعض الأعمدة القديمة من أروقة الكنيسة السابقة، وأيضاً أبنية تعود إلى فترة البيزنطيين والصليبيين، ويقع تحت الدير قاعة واسعة كانت سابقا معصرة زيتون ثم خاناً للحيوانات في الفترة العثمانية.
ويضيف أيضا، إن هناك كنيسة القديسة كاترينا المكرسة باسم القديسة كاترينا الإسكندرية والمبنية على النمط الباروك، وبابها من عمل الفنان الايطالي مورثيت، اما الباب الحديدي في أقصى يمين الكنيسة فهو من عمل الفنان الأب سليفرو العام 1700، وجرن العماد مصنوع من الرخام، ويعود إلى العام 1734م.
مغارة الأطفال
مررت على معظم تلك الكنائس، والأديرة، والمعالم، ونزلت من خلال درج يفضي إلى الأسفل، حيث المعابد والمغائر، التي شعرت بالمهابة وأنا أمشي باتجاهها، وتلك المغائر والمزارات هي كل من مغارات ايرونيموس التي تعود إلى العصور الوسطى، ومزار أطفال بيت لحم، ومغارة أطفال بيت لحم وصومعة القديس هيرونيموس، وقبور تذكارية للقديستين بولا واستوكيا ويزينيوس خليفة هيرونيموس، ومزار يوسف، وممر يؤدي إلى مغارة المهد.
انطباعات كثيرة اجتاحتني خلال هذه الجولة، واجتاحتني قشعريرة، وكثير من الحزن، حين وقفت أمام مغارة الأطفال، وهي ليست مفتوحة، وهناك حاجز حديدي، يظهر من وراءه أكوام جماجم الأطفال الذين قتلهم هيرودس، عندما أراد أن يتخلص من اليسوع حين ميلاده، ويقال إن عدد الأطفال الذين قتلو 144 ألف طفل، وتشير الكتابات حول هذه الحادثة، إلى أن هيرودس رأى في منامه رؤيا أفزعته، فطلب إلى أهل العلم بالأحلام والرؤى أن يفسروها له، فذكروا أن من بين الأطفال الذين وُلِدوا في الأعوام الثلاثة أو الخمسة الأخيرة طفلا سيكون له شأن يقضّ مضجع الإمبراطورية ويسوء أثره بها.
ورأى هيرودس أن الخير في قتل الأطفال الذين وُلِدوا في هذه الفترة جميعًا، وقتلهم ودفنهم في هذه المغارة، وكان يسوع قد وُلِد في هذه الفترة، وأوحي إلى أمه بما استقر عليه رأي هيرودس، ففرت بابنها إلى مغارة الحليب حيث أقامت حتى ارتكب هيرودس جريمته الشنعاء وقتل من قتل من الأطفال وألقى بهم في هذه المغارة.
ثم إنها تحملت بابنها راكبة حمارًا وسارت به حتى بلغت مصر، وهناك أقامت وإياه ثلاث سنوات عادت به بعدها إلى فلسطين.
القديس هيرونيموس
أضأت الشموع في مغارة المهد، وأضأتها في غير مكان في أرجاء الكنيسة، وكانت روحي منتشية بزخم القداسة الذي يحيطني، وكأنني في مكان سماوي، كل ما فيه شفيف نقي.
استوقفني دليلي الشاب التلحمي، حين مررنا أمام صومعة القديس هيرونيموس، وحدثني عنه، قائلا إنه وصل إلى بيت لحم العام 386 وكان عمره 46 عاما، وعاش هنا ثلاثين عاما مكرسا حياته للتأمل، وفي هذا المكان أخذ على عاتقه ترجمة الكتاب المقدس من لغته الأصلية إلى اللغة اللاتينية، حيث إن الغرب لم يكن يعرف الكتاب المقدس حتى ذلك الحين، إلا من خلال الترجمة السبعينية، ولم يكن الحصول على نسخة أصلية من الكتاب المقدس في ذلك الوقت أمرا سهلا، ولكنّ هيرونيموس اتفق مع أحد الربانيين أن يعيره درج الكتاب في الليل، ليعمل على ترجمته، ويعيده في الصباح الباكر، قبل أن يشعر أي أحد باختفائه، وقد سميت ترجمته بالترجمة الشعبية، وتم اعتمادها من قبل الكنيسة.
الحصار
عند أحد جدران كنيسة المهد، أخذنا الحديث الى منحى آخر، يعود الى العام 2002م، حيث
حصار كنيسة المهد، في فترة الانتفاضة الثانية، حين فرضت قوات الجيش الاسرائيلي الحصار على المسلحين الفلسطينيين داخل الكنيسة منذ 2/ا الى 10/5/2002م، إذ إنه كان يتحصن في الكنيسة 300 مقاتل فلسطيني، مسلحين ببنادق الكلاشنكوف والأم 16، أما الإسرائيليون فقد حشدوا 3000 جندي، و200 دبابة و 30 طائرة مقاتلة.
تشير يوميات ذاك الحصار، الى أنه قد بدأت القوات الإسرائيلية اجتياحها لمدينة بيت لحم كباقي المدن الفلسطينية، حيث دارت اشتباكات بين المسلحين الفلسطينيين، وقوات الاحتلال الإسرائيلي على أطراف مدينة بيت لحم، وفي نفس الليلة قام المسلحون الفلسطينيون بالهرب والتحصن داخل كنيسة المهد، وفرضت قوات الاحتلال الإسرائيلي حصارا على الكنيسة.
وأثناء الحصار جرت مفاوضات مع الجانب الإسرائيلي من قبل المنظمات الدولية والاتحاد الأوروبي والسلطة الفلسطينية، وعلى أثر هذه المفاوضات تم ابعاد المسلحين الفلسطينيين عن الضفة الغربية إلى قطاع غزة وبعض الدول الأوروبية، وكان عدد الخسائر من ناحية الإسرائيليين محصورا بـ 2 من الجنود القتلى و 7 مصابين، أما في الجانب الفلسطينيي فقد استشهد 8 وأصيب 14.
الراهب الطيب
آخر المطاف في كنيسة المهد، استضافنا في قاعة الضيوف، أحد الرهبان الإيطاليين، الذين يقيمون هناك منذ أكثر من عشرين سنة، ويتحدث اللغة العربية بطلاقة، رحب بنا بكل حرارة، وأكرمنا، وقدم لنا الضيافة، قبل أن يودعنا عند باب كنيسة المهد، ونخرج منها، بصمت، ومهابة، وكأن بركة المسيح، والعذراء، وكل القديسين، تحيطنا بهالة من المحبة، والسلام، والصفاء.