تاريخ النشر: 24 شباط 2015

ســـــــــمــاء الـفـيـنــيــق: الأردن.. فـلـسـطين (9)


قبل أن أرتحل، في تجوالي، إلى مكان عزيز على قلبي، وهو مدينة بيت لحم، قلت سأزور أمكنة سمعت عنها، وقرأت حولها، وأنا قريب منها الآن، وهي تتهيّأ لكي أراها، قبل أن أصل كنيسة المهد.
الوجهة الآن تسير بي نحو قريتي أرسطاس والخضر، وهما من قرى بيت لحم، حيث سأكحل العين برؤية كل من الجنة المغلقة وبرك سليمان في ارطاس، ومقام الخصر في بلدة الخضر.   

أرطاس.. ومهرجان الخس
أول النهار مشرق كما الأمكنة التي أعلل القلب بالوصول اليها، وكأن رفيق دربي، ودليلي، أكرم الحمري، قرأ ما يجول في ذهني، فأوضح لي بأننا في البدء سنتجه الى قرية ارطاس، الواقعة على مسافة 4كم جنوب غرب بيت لحم، ولم يقل لي معنى الاسم، لكنه أخبرني بأنه يوجد فيها الجنة المغلقة، وحين بحثت عن معنى اسمها، وجدت رابطا قويا بين اسم القرية، وبين تلك الجنة المغلقة، حيث أن أرطاس هو في الأصل اسم لاتيني، ويعني البستان، أو الجنة المغلقة أو المقفلة.
ها أنا أدخل قرية أرطاس، ما أروعها؛ جميلة، وهادئة، وذات طبيعة زراعية، وفيها وادي أرطاس الذي تميزه بساتينه وعيون مياهه. وقال لي صديقي بأنه يقام في أرطاس كل سنة مهرجان الخس، كما أن بها جامع عمري، وهناك ذاكرة تاريخية معتقة تسكن فيها.

الجنة المغلقة
كان الوقت محدودا بالنسبة لنا، لنتمكن من رؤية الجنة المغلقة، وأمكنة أخرى، لنتفرغ بعد ذلك لزيارة بيت لحم، وكنت ملهوفا لسبر سر «الجنة المغلقة»، وبجانبي صديقي أكرم الحمري، وهو أكثر العارفين بلهفتي لتقشير سيَر الأماكن، ونبش الذاكرة والتاريخ الساكن فيها.
تجاوزنا الطرق الضيقة للقرية، ووقفت بنا الحافلة أمام بوابة ضخمة؛ هنا مدخل دير الجنة المغلقة، أو دير راهبات سيدة الجنة المغلقة، ولا بد من الإشارة إلى أنه فيما قرأت عن هذا المكان، يرد أحيانا تحت مسمى الجنة المقفلة، وكلا الاسمين يوصلان الى ذات المعنى. انتظرنا قليلا، إلى أن سُمح لنا بالدخول، وفُتحت البوابة، حيث تركنا السيارة في الخارج، ومشينا راجلين داخل الجنة المقفلة، هذا المكان الغامض، الجميل، المريح، الطيب الحضور.

«قلب مقدس للرب»
تشير ذاكرة دير راهبات سيدة الجنة المغلقة إلى أن الذي بناه هو الأسقف مورينو، رئيس أساقفة مونت فيديو، رئيس مجموعة أديرة الراهبات أخوات مريم، حيث أنه زار المكان عام 1895م وقرر بناء الدير هنا وعاد في عام 1897م وكان قد جمع التبرعات والمال،  فاشترى قطعة أرض، ووضع حجر الأساس لهذا الدير، واستمر البناء أربع سنوات، حتى اكتمل عام 1901م، يتجلى كما هو الآن دير الجنة المغلقة.
ياه ما أعمق دلالة الإسم: الجنة المغلقة..
ها هنا تتداعى صور ومعان كثيرة، وقد كنت قرأت حول دلالة الجنة المغلقة في الكتاب المقدس: (فإذا كان القلب محفوظاً كجنة مسرات للرب. فإنها يجب أن تكون جنة مغلقة. وهذا يحدثنا عن القلب المنفصل عن العالم، والمحفوظ من الشر، والمُفرز للرب.
أفلا نستطيع أن نقول: إنه في صلاة الرب الأخيرة، نلمس رغبة قلبه في أن يبقي شعبه كجنة مغلقة؟ فنسمعه يقول للآب إن خاصته جماعة منفصلة، فقال: «ليسوا من العالم كما إنني أنا لستُ من العالم». ويطلب أيضاً أن يكونوا محفوظين، فقال للآب: «قدّسهم في حقك»).
فالمعنى اللاهوتي هنا، للجنة المغلقة، هو «قلب مقدس للرب»، ولكنني أجد أيضا، لهذه الجنة وصف بديع، في تماهٍ مع دلالات أخرى، حين يرد في نشيد الإنشاد: «.. أختي العروس جنة مغلقة.. عين مقفلة.. ينبوع مختوم.. أغراسك فردوس رمان مع أثمار نفيسة، فاغية، وناردين، وكركم، وقصب الذريرة، وقرفة مع كل عود اللبان.. مر وعود، مع كل أنفس الأطياب.. ينبوع جنات.. بئر مياه حية وسيول من لبنان.. استيقظي يا ريح الشمال وتعالي يا ريح الجنوب هبي على جنتي فتقطر أطيابها ليأت حبيبي الى جنته ويأكل ثمره النفيس». 
سرنا، بعد المدخل، باتجاه جسر حجري قديم، إلى أن وصلنا واجهة الدير، ومبانيه، فتبدى لنا تحفة معماريه، يجاوره وادي أرطاس الخصب، الساحر، بمناظره، ومياهه، تَحُفّه البساتين والمزروعات، وهدوء لم أشهده في أي مكان آخر، وكأن السكينة، والخشوع، تغلف المكان.. هذا الموقع بكل تجلياته تديره راهبات الجنة المغلقة، وهو يضم كنيسة، وميتما، وورشة للأطفال، وعيادة.

برك سليمان
لم نقض فترة طويلة في الجنة المغلقة، كان يكفيني أن أرى المكان، لأعشقه، ولأعرف كم يحمل في فضاءاته تجليات اسمه، والقلوب الطيبة التي تسكنه، اذ يكفي ما عرفته عن فضل هذا الدير في تعليم أطفال قرية ارطاس، والعناية بهم، ليتجاوزوا الظروف الصعبة من أثر الاحتلال.
ودعت المكان، وتابعت مع رفيقي، في سيارته، المسير الى حيث برك سليمان، وهي ثلاث برك ماء، تقع جنوب بيت لحم، وتعود تسميتها الى السلطان العثماني سليمان القانوني أبو القسام الهيبلوني، الذي رممها، وأعاد تأهيلها، واستخدامها سنة 943هـ، ولكن تاريخها القديم يقال بأنه يعود الى مئات السنين الماضية، حيث أن أقدمها شيدت في القرن الأول قبل الميلاد، أما أحدثها فشيدت في العام 1570م، وقد كانت هذه البرك من أهم مصادر المياه لبيت لحم والقدس.
الآن أصل هذه البرك، التي صارت متنزها لأبناء المنطقة، كما أنها وجهة سياحية لأهالي المدن البعيدة، لما تتمتع به من مناظر جميلة، وطبيعة خلابة تحيط بها، مع ينابيع، وأشجار حرجية.
كما أنه توجد بالقرب من هذه البرك، قلعة مراد (قلعة البرك)، التي بناها السلطان العثماني مراد الرابع، وتحتوي على غرف مبيت الجنود، ومسجد، وأربعة أبراج، وقد كان الهدف منها حماية المسافرين على الطريق التاريخي بين القدس والخليل، وكذلك حماية المياه والبرك والمنطقة المحيطة، وقد تم ترميم هذه القلعة، وهي الآن متحف تراثي.

مقام الخضر
كل بلد أزره، أسأل إن كان هناك مقام للخضر فيه، ودائما أجد الخضر حاضر من خلال كنيسة، أو شجرة، أو معلم يدل عليه، وها أن أتجه الى مقامه، في القرية التي أخذت اسمه، ويقال بأنه ولد فيها، في «قرية الخضر» التي تقع الى الغرب من بيت لحم، وتبعد عنها حوالي 5كم، وقد وصلتها ومعي رفيقي، أنا الذي كنت تتبعت خطوات هذا القديس في الأردن، حيث أن له مقام في ماحص، وآخر في السلط، وثالث في عجلون، وهناك أيضا في الرامة، وكذلك توجد أشجار مباركة تحمل اسمه قريبا من سامتا في عجلون.
كان المقام مغلقا، فطرقنا باب حارس وخادم المقام، بالبيت المجاور للكنيسة، وفتح لنا البوابة، ورحب بنا، وأدخلنا حيث الكنيسة التي تحتوي بين جدرانها المقام. قال لنا خادم المقام، أن الخضر قد ولد في هذه القرية، وقد أضفى عليها قدسيته، واسمه حيث أنها تم تسميتها بالخضر نسبة الى مقام الخضر عليه السلام، وهناك رواية أخرى تقول بأنه قد أقيم فيها دير تخليدا للقديس مارجرجس أيام الانتداب البريطاني.
كان خادم المقام يتحدث بحرقة عن مضايقة جيش الاحتلال والمستوطنين، لهم في المقام، وأرانا بعض الطلقات وبقايا القنابل الدخانية التي ترمى على المقام.
ولكن رغم كل هذا، فإن أهل القرية صامدون بجانب القديس الخضر، يقيمون مهرجان العنب هنا، كل عام، مثلما هم مستمرون في احتفالهم بعيد الخضر في الخامس والسادس من شهر أيار، حيث حيث يحضر المؤمنون من كل أرجاء فلسطين احتفالا بهذا القديس الذي أضفى بحضوره البركة على القرية وأهلها.