تاريخ النشر: 24 شباط 2015

شهادات تنزف ألماً للمدهون وحامد وناطور في معرض "الدار البيضاء" للكتاب والنشر "الذات الفلسطينية بين المنفى والوطن" .. طعم الفراق في صباحات يافا سفر على سفر!

كتبت بديعة زيدان، مندوبة «الأيام» إلى الدار البيضاء:
حينما يصبح الوطن مجرد ذكريات، أو ذكريات عن ذكريات، بينما تتكاثر المنافي كما يتكاثر الوجع داخل من لا يزالون لا يقبلونها، أو قرروا التعايش معها رغماً عنهم أو من باب التصالح مع واقع اختاروه أو لم يختاروه، لا يبقى للفلسطيني إلا «كمشة» من جوازات سفر أو بطاقات إقامة صادرة عن دول وجغرافيات عدة، إلا دولته التي لا تزال تنتظر الولادة الحقيقية.
قد يذوب الفلسطيني في المنفى، وقد يستعصي عليه الذوبان، أو يستعصي على المنفى تذويبه، وقد يكون محظوظاً بجواز سفر لدولة عربية أو أجنبية، ولكل حظوته إذا ما قورن بوثائق السفر، التي هي وثائق لجوء تجعله رهين الدولة التي أصدرتها في حالات، أو ممنوعاً من زيارة الدولة التي أصدرتها أو الإقامة فيها في حالات أخرى.
ومع مرور السنين، حتى بات على الفلسطينيين أن يحيوا هذا العام ذكرى 67 سنة على احتلال العام 1948، و48 سنة على احتلال العام 1967، فيما مفارقة عجيبة وموجعة في آن، يعيش المنفيون يومياتهم ما بين شوارع نظيفة وسيارات فارهة وحسابات بنكية وفيرة، أو بين أزقة هذا المخيم أو ذاك، تلك الأزقة المكتظة بالألم كما أسلاك الكهرباء المميتة، والروائح الكريهة، وحكايات كانت لآبائهم، وربما لهم أيضاً، مع حلم لربما يشيخ مثلهم بالعودة إلى بلاد كانت لهم، ولعل هذا الحلم هو ما يدفعهم لمقاومة أمواج اللجوء المتلاطمة، والنجاح في كثير من الأحيان بالنجاة من غرق محتم، وكأنهم يمنون النفس بألا تنقضي حيواتهم إلى قبر تحت أرض غريبة، أو يحلمون بزيت من زيتونات لها في ذاكرتهم ألق لا يزول، أو بيارات لا تزال رائحتها عالقة في قمصانهم.

سفر على سفر
ومن عنوان الجزء الثاني من ثلاثية له، أي «سفر على سفر»، وحكاية فدوى حبيب، استوحى الكاتب والأديب الفلسطيني سلمان ناطور حكايته، مؤخرا ضمن فعاليات الدورة الحادية والعشرين للمعرض الدولي للنشر والكتاب بالدار البيضاء، وفي خضم ندوة تناولت جدلية «الذات الفلسطينية بين المنفى والوطن»، ما يمكن أن يعبر عن هذه الجدلية، لافتاً إلى أن اللاجئ الفلسطيني ما فتئ يعيش ما يزيد على طاقته من التهجير والتشريد في رحلة البحث عن سكون وسلام ذاتي ببلاد المهجر بعيدا عن وخز الذاكرة، إن هو استطاع أن يلفظ عنه وطنه.
و»سفر على سفر»، هو عنوان الكتاب الثاني في ثلاثية للمؤلف صدرت العام 2009 بعنوان «ستون عاما: رحلة الصحراء» ضمت أيضا «ذاكرة» و»انتظار»، اقتطع منها مقتطفات من حكاية فدوى حبيب، وهي شخصية متخيلة لفنانة وشاعرة فلسطينية ابنة مدينة بيسان التي شردت منها طفلة، وظلت تحمل مدينتها معها من منفى إلى منفى في بحث عمن يعود إليها بشيء من بيسان، هي فقط تريد أن تعرف من يسكن في بيتها، ومن ذاك الذي محا خطواتها الطفولية من على الممر المرصوف بحجارة سوداء.
في حكاية فدوى حضور طاغٍ لجدلية الوطن والمنفى، فهي هجرت من بيسان حينما كانت في السادسة من عمرها، وتنقلت من منفى إلى منفى، إلى أن استقرت في المغرب، حيث تزوجت من تاجر مغربي، وكان جيرانهم من اليهود، هاجروا نحو إسرائيل، ليسكنوا بيت فدوى في بيسان.
يثقل عليها الوطن بالسؤال حتى تبدو وكأنها تعبت، وهي تسعى لتستطلع أحوال البيت، وبيسان، في لحظة يأس، تبوح «البيت أخذ مني ما يكفيه من الألم. بكيت عليه كثيرا، ولكن هل يجدي البكاء .. يبدو لي أحيانا أن البيت يؤلمنا لكي نتنازل عنه.. هو تعب منا لأننا نعيد إليه ذاكرته.. مؤلم جدا أن تعيد ذاكرة المكان.. ولكن، هذه هي الطريقة الوحيدة لتثبت ولاءك له».

وطني وليس دولتي
وقال ناطور: أعيش في الأراضي المحتلة العام 1948، في حيفا، مع هذا اليهودي المهاجر الذي احتل البلاد وبات يسيطر عليها .. لست بعيداً عن وطني، أنا في الوطن، والفرق بيني وبين هذا اليهودي المهاجر أن هذا الجزء هو وطني، ولكنه ليس دولتي، بينما لليهودي هي دولته وليست وطنه، وثمة صراع بيننا، وما بين الوطن والدولة، والعلاقة بالأرض، والسهل، والشجرة، والحيوانات حتى .. عندما أكتب أرصد حكايات لشخصيات حقيقية، وفيما بعد قد أضيف إليها، فأبطال قصصي، وإن تغلفوا بخيال يقتضيه النص، فهم من أبناء الواقع الفلسطيني، وأسعى على الدوام إلى نقلهم لواقع آخر متخيل، لافتاً إلى أنه وفي كتابه «ذاكرة» كتب عن أناس التقاهم جميعهم، وليس ثمة في الكتاب ما هو إضافة إلى شخصياتهم وحكاياتهم وحيواتهم.
وسلمان ناطور أديب من أولئك الذين حولتهم نكبة 1948 إلى غرباء داخل وطنهم، بعد أن صمدوا في وجه التهجير، ليصبحوا مواطنين بالاسم وربما البطاقة الشخصية فقط في وطن كان لهم ليصبح دولة لغيرهم، فالبقاء في الأرض بالنسبة إليه، ومن هم في مثل حالته، بات لجوءاً بشكل أو بآخر .. لجوءاً له طعم بمذاق الحنظل أو أشد كثيراً.

«متلازمة  الفلسطيني»
بدوره تحدث الروائي والكاتب الفلسطيني أنور حامد في شهادته عما وصفه بـ»متلازمة الفلسطيني»، لافتاً إلى ما يعايشه الفلسطيني ويعيشه من حالة «ارتباك وطني متوارث» على الحدود والمعابر، والتي تجعله دائما، أو في أغلب الأحيان في حالة خوف مستديمة من الاعتقال والمطاردة، أو هكذا يشعر على الأقل.
وبالنسبة لأنور حامد، الذي يعتبر نفسه محظوظا لحيازته أربعة جوازات سفر (أردني، مجري، بريطاني،و فلسطيني)، التجربة كانت مغايرة، فأن يعيش اللاجئ جغرافيا بعيدا عن الوطن، وحالة الحنين الدائم إلى شظايا الذاكرة، لا يعني الإفراط في هذا الحنين، لأن الآخر، كما قال، لا يعيش الأحاسيس ذاتها، ولن يستطيع أن يفهم معنى أن تكون منفياً عن بلادك، فهو من ثقافة مختلفة قد لا تسعفه في مشاركة الفلسطيني وجعه.
فكان من الضرورة، برأي حامد، أن يغير الأديب من لغة السرد، نحو مزيد من الموضوعية التي تتيح له تفكيك الواقع الفلسطيني بجرأة، وتبني لغة منفلتة عن الأسلوبية التقليدية المغرقة في الوصف والحنين، لعله يسير على بوصلة تؤدي به إلى حيث لغة جديدة تشرح الحياة الفلسطينية في الداخل والخارج، وترصد اختلالاتها.

غربة روائية
وذهب حامد إلى أن «الغربة الروائية» التي عاشها في المهجر دفعته إلى التشكيك في كل المسلمات السابقة وإعادة تشكيل منطلقاته، قائلا: «أصبحت أنظر إلى الواقع الفلسطيني نظرة الآخر (من الخارج)، حتى يراه القارئ بأكبر قدر من الشمولية، فالروائي بالمهجر يكتب لقارئ مختلف»، مؤكداً أن وجود الروائي على مسافة من المجتمع تتيح له أن يكون نظرة بانورامية لواقع الحكي، قد تختلط بالتجربة الذاتية، لكنها لا تتماهى معها، وهو هنا لا يعني تحييد الروائي في الصراع النفسي الذي يعشيه اللاجئ بين حنينه إلى الوطن، وإكراهات الواقع الجديد بالمنفى، لكنه يدعو إلى بناء خطاب روائي قادر على المكاشفة والمصارحة، فليس دور الأديب تجميل الصورة، ولكن إضاءتها وترميم انكساراتها.
الغربة والروائي
وختم حامد حديثه، بالقول: معايشة الغربة مختلفة بالنسبة للروائي عن غيره، مع أن هناك عوامل مشتركة في معايشة الغربة، فالكل روائي كان أم غير روائي هو فلسطيني، فالألم هو ذاته والمعاناة هي ذاتها، لكن على الروائي مسؤولية إضافية تتمثل في العمل على نقل هذا الألم، وهذه المعاناة، ويحولهما إلى شهادة، وليس فقط شهادة، خاصة أن الرواية هي عبارة عن عقد بين الكاتب والقارئ الذي يتظاهر بتصديق الشخصيات الروائية التي غالباً ما تكون متخيلة ولو في جزء منها، وكروائي أسعى لنقل هذه الشهادات إلى روايات لا تنقل المعاناة والألم فحسب، بل تحوي كماً لا بأس به من المتعة أيضاً، بحيث يكون النص قابلاً للتصديق.. وبالتالي عليّ أن أجترح أو أجتزئ من التجربة ككل حكاية محدودة التفاصيل ومركزة، وقادرة على التعبير عن التجربة الفلسطينية بكل تجلياتها وتفاصيلها، وهذه مهمة في غاية الصعوبة، فإن أجادها الروائي وصلت، وإن لم يجد لم تصل.
واعترف: صوتي بالمجرية للقارئ المجري مختلف إلى حد ما عن صوتي بالعربية للقارئ العربي والفلسطيني، خاصة أن القارئ العربي والفلسطيني يفرض علينا أحياناً الالتزام بخطوطه الحمراء الكثيرة ومقدساته، رغم محاولتنا التهرب منها، وحينها تكون الصدمة ربما، وهذا لربما ما حدث إزاء توقعات القارئ العربي والفلسطيني من روائي فلسطيني في رواية معنونة بـ «يافا تعد قهوة الصباح»، أو «جنين 2002»، فهم يريدون مني أن أغذي لديهم الحنين ليافا، بينما لديّ مداخل أخرى لا تغفل أيضاً أمراض المجتمع الفلسطيني، ورغم هذا الاختلاف بين الصوتين إلا أن ثمة تقارباً بينهما.
وأنور حامد روائي وشاعر وناقد، يكتب بثلاث لغات هي: العربية والمجرية والإنجليزية، ولد في بلدة عنبتا العام 1957، وبدأ نشاطه الإبداعي أثناء المرحلة الثانوية. نشرت قصائده وقصصه القصيرة الأولى في جريدة القدس والفجر الصادرتين في مدينة القدس.
ومن أهم رواياته، «حجارة الألم»، التي صدرت أولا باللغة المجرية في بودابست العام 2004، ثم العربية العام 2005، و»شهرزاد تقطف الزعتر في عنبتا» العام 2008، و»جسور وشروخ وطيور لا تحلق» العام 2010، و»يافا تعد قهوة الصباح» العام 2012، ووصلت إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر)، وآخرها «جنين 2002» العام 2014.

الوطن سرداً
وعنون الكاتب والروائي ربعي المدهون شهادته «في معنى أن يكون المنفى حياة والوطن سردا».. وقال إن الفلسطيني، أي فلسطيني، اقتلع من أرضه، قد يتعرض في مرحلة ما من حياته، إلى عدم امتلاكه جواز سفر، وحين يتوفر، قد لا يصلح للتنقل أو السفر، وقد يغترب الفلسطيني في بلد ما أو أكثر، وربما يتعرض للطرد أو الابعاد، أو الاعتقال، أو السجن، والتعذيب.
وأضاف: قد يكون قد عايش حربا عربية – إسرائيلية أو أكثر، أو حربا أهلية أو أكثر، وربما كان طرفا في واحدة منها أو أكثر.. لا أبالغ إن قلت إن حياتي هي تلك السلسلة من التشرد والمنافي التي تخللها كل ما ذكرت، باستثناء الاجتياح الإسرائيلي للبنان العام 1982.
وعدد المدهون الوثائق وجوازات السفر التي تنقل بها خلال أربعين عاما من الغربة، وقال: «وتوزّعتني المنافي كلها، وتوزَعتْ عليّ من دون عدل أو إنصاف. فشملت خارطة إقامتي: المجدل عسقلان، (الواقعة في جنوب فلسطين ، على بعد خمسة عشر كيلومترا شمال مدينة غزة، وتحوّلتْ منذ النكبة إلى أشكلون، وتتلقى، أحيانا، صواريخ حماس) (3 سنوات). مخيم خان يونس للاجئين الفلسطينيين (ستَ عشرة سنة)، والقاهرة (سنتين)، والاسكندرية (أربع سنوات)، ودمشق (سنة واحدة)، وعمان (بضعة أشهر)، وبغداد (سنتين)، وبيروت (سنة)، وموسكو (سنة)، ودمشق مرة أخرى (بضعةَ أشهر)، وبيروت مرة أخرى (خمس سنوات)، ونيقوسيا، قبرص (اثنتي عشرة سنة)، ولندن (عشرين سنة).
وخلص إلى القول: «في كل منعطف بين منفيين، كانت ثمة مساحة من مأساة مؤقتة، يكون فيها الطريق إلى المنفى أقسى من المنفى».
وقال أيضا، إن «المنافي أنواع، وهي مثل الهم ع القلب، كما يقول الفلسطينيون: ثمة منفى نرغم على العيش فيه، ومنفى نختاره بإرادتنا، ومنفى يختارنا هو. منفى يروِّضنا، ومنفى لا يقوى على ترويضنا فنروّضه، ومنفى لا يروضنا ولا نقوى على ترويضه».
منفاي الأول كان مخيم خان يونس للاجئين الفلسطينيين، لذي أوجدته نكبة 1948. عشت في المخيم مثل سكانه، غريبا في قطاع غزة الفلسطيني، كان يشار إلينا باللاجئين. اعتُبِرنا في تعريف من هو المواطن، حالة أدنى من سكان خان يونس الأصليين الذين تمتّعوا بلقب «مواطنين».
وأما القاهرة، ومن بعدها الاسكندرية، فكانت انتقالا من بؤس المخيم وفقره وعاداته وتقاليده القاسية، إلى رحاب المدينة المنفتحة، المفتوحة على كل ما كان مغلقا في المخيم.
في تلك المرحلة التي امتدت ما بين 1964 و 1967 أحببت منفاي، أحببت القاهرة، وأحببت أكثر، اسكندرية عمري كما أطلقت عليها، فقد كانا شكلا من أشكال الخلاص من وجع المخيم.
في تلك السن، سن المراهقة، مكّنتني القاهرة من التمرد على سلطة المخيم، ووفرت لي مساحة مفتوحة على عالمها الثقافي والسياسي والسياحي والاجتماعي والحضاري، في ظل انفتاح نسبي على العلاقات الاجتماعية.

التدريب على الغربة
لكن «بعد حرب 1967 ووقوع قطاع غزة تحت الاحتلال الاسرائيلي، تقطّعت بي السبل، ووجدت نفسي طالبا جامعيا غريبا، بلا أهل، بلا معين، بلا دخل، غارقا في هزيمة شخصية وهزيمة أمة بأكملها. في تلك المرحلة، أصبحت القاهرة منفى حقيقيا. وبدأت أتدرب على الغربة».
وفي العام 1970، اعتقلت في الاسكندرية، وأبعدت عن مصر لـ»خطورتي على امنها القومي»، ومنذ ذلك الوقت بدأت مناف تتوالد من المنافي: القاهرة سلمتني الى دمشق. دمشق بعثت بي إلى معسكر قريب من مخيم سوف في الأردن، ثم ثانية إلى دمشق، ودمشق لفظتني إلى بغداد، لأختبر منفى جديدا.
روّضت بغداد لمدة عامين (منتصف 1972- منتصف 1973). بدأت أول خطواتي في عالم الصحافة. أطول ساعات القراءة في حياتي كانت في بغداد، ولدت فيها «شرعيا»، ككاتب قصة قصيرة، كان المنفى العراقي فراغا إيجابيا ملأته بالقراءة والإنتاج الأدبي وعشته كعراقي، يتحدث اللهجة العراقية كأهل بغداد (...) لكن موسكو التي عشت فيها عاما كاملا، 1975-1976، لم تكن كذلك، أمضيت السنة في مدرسة حزبية داخلية، أُطل على موسكو مرة في الأسبوع ولا أرى تفاصيلها، أو أتعرف عليها، إلا كما هي في الكتب والصحف الحزبية، عاصمة الدول الاشتراكية، ونصيرة ثورات التحرر الوطني.
كانت موسكو، تجربة في النظرية والفلسفة المادية التي جفّت فيها كل مصادر الالهام والإبداع لدي، واعتلت الماركسية اللينينية ملامحي الفكرية والايديولوجية. كانت موسكو التي أحببتها على الرغم من ذلك، وتعلّمت لغتَها، اغترابا من نوع آخر».

انقلاب جديد
ما بين 1976 و1981، عشت مواطنا فلسطينيا كامل المواطنة، في ما كنا نطلق عليه، «جمهورية الفاكهاني»، وهي بحجم المربع الذي ضم فصائل منظمة التحرير الفلسطينية، ومكاتبها، ومؤسساتها، وعناصرها في بيروت الغربية. وشهدت تلك المرحلة انخراطي الكامل في الوسط الفلسطيني الكفاحي والحزبي والسياسي والثقافي. إلى هذا الفن الجميل.
غادرت بيروت وعائلتي في أيلول 1981، بجوازنا اليمني الذي يضمنا، إلى العاصمة القبرصية نيقوسيا، لنمضي أطول فترة إقامة مؤقتة مرت في حياتنا، في وطن «تيك أويه».
اثنتا عشرة سنة قضيناها في «جزيرة النعاس»، كما أطلق عليها الروائي السوري، حيدر حيدر. تجربة شكلت انقلابا في حياتي، إذ اختفت فيها الكتابة الأدبية، وانتهت علاقتي بها تماما، وظهر فيَّ بقوة، الصحافي والمحلل السياسي والباحث الأكاديمي. في تلك الفترة أصدرت طبعتين من كتابي الثاني «الانتفاضة الفلسطينية..الهيكل التنظيمي وأساليب العمل»- 1988، و1989.
غادرت نيقوسيا، في أواخر العام 1993 إلى لندن، لأجد نفسي بعد 50 عاما على لجوئي الأول حين كنت في الثالثة من عمري، لاجئا أجر معي عائلة أورثها بعض مناف. كان ذلك أقسى انتقال في حياتي، ففي الطائرة فقدت وعائلتي الارتباط بالمكان: «العودة إلى قبرص لم تعد ممكنة، وقبول لجوئنا في بريطانيا غير مضمون. شيء واحد كنت واثقا منه، أن بريطانيا ستقبلنا لأنها لن تجد دولة تقبلنا إن رفضتنا هي».

سيرة روائية
وقال المدهون إنه كتب في لندن سيرته الروائية «طعم الفراق»، التي صدرت العام 2001، حيث أتاح له المنفى البريطاني رؤية الوطن بحياد بالغ الدقة بين الواقع والحنين.
وقال إنه حين فكّر في كتابة روايته «السيدة من تل أبيب»، اختار لها بطله وليد دهمان، «أعطيته بعض ملامحي وجعلته قريبا منّي. ثم  أخذته معي إلى غزة. كتبت قصته لأذكره بماضيه، وراقبته يكتب وهو يتابع الرحلة معي روايته أمام عيني. معاً عشنا صدمة الوطن، الذي طرحنا عليه أسئلة كثيرة وطرح علينا مثلها: ما الذي تبقى مني ومن وليد دهمان بعد كل المنافي التي عبرناها معا؟ ما الذي تبقى من الوطن الذي تركناه قبل أربعين عاما؟ ما الذي طرأ على هوية كل منّا، وإلى أي مدى تغيّرت؟ ملامحي الجديدة حتما ليست هي القديمة. وتكويني الحالي، موشّح بسمات وخصائص المنافي التي عشتها. هل العودة ممكنة بعد سنين من التصالح  مع المنفى الذي كفّ عن كونه منفى وتحول إلى وطن؟ كان هذا سؤال وليد دهمان، الذي يتابع بحثه عن إجابة في عملي التالي».
وختم: روايتي «السيدة من تل أبيب» (الآن في طبعتها السادسة)، حاولت أن تجيب عن تلك الأسئلة، وعن أسئلة أخرى قد تطرحونها عليّ.
والروائي ربعي المدهون من مواليد مدينة المجدل عسقلان، في جنوب فلسطين التاريخية العام 1945، هاجر وعائلته خلال النكبة العام 1948 إلى خان يونس في قطاع غزة، تلقى تعليمه حتى المرحلة الثانوية في مدارس خان يونس، والجامعية في كل من القاهرة والاسكندرية التي أبعد منها بسبب نشاطه السياسي، عاش وتنقل بعد ذلك في كل من عمان ودمشق وبغداد وموسكو وبيروت ونيقوسيا إلى أن استقر في لندن حيث حمل هناك الجنسية البريطانية.
صدرت له العام 1977 مجموعة قصصية وحيدة بعنوان «أبله خان يونس»، ثم كتاب بحثي العام 1988 بعنوان «الانتفاضة الفلسطينية.. الهيكل التنظيمي وأساليب العمل»، و»طعم الفراق: ثلاثة أجيال فلسطينية في ذاكرة» العام 2001، ورواية «السيدة من تل أبيب»، التي صدرت ببيروت سنة 2009، ووصلت إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر).