رغم مرور أكثر من أسبوعين على الزيارة التاريخية التي قام بها الرئيس محمود عباس إلى الجزائر، إلا أن وهج هذه الزيارة لا يزال حاضرا بكل قوة في مشهد العلاقة الضاربة في عمق البلدين الشقيقين، اللذين لم ينفكا عن كتابة التاريخ العربي بأروع حروف الكفاح والجهاد، حتى باتا وكأنهما توأمان إن رأيت أحدهما حسبته الآخر؛ تاريخاً وكفاحاً وتطلعات.
من متحف المجاهد، من أعلى العاصمة الجزائرية، حيث يتعانق البر والبحر في لوحة انتصار الكف على المخرز، بدأ الرئيس زيارته الرسمية للجزائر، وهي بداية أعدها الأشقاء الجزائريون بعناية فائقة، لكي تكون رسالة أمل يتجاوز كل حواجز الألم، الماضي والحاضر، أن الشعب إذا أراد الحياة، فلا بد أن يستجيب القدر، وأن الاحتلال إلى زوال مهما طال أمده، ومهما بلغت سطوته، وكما نالت الجزائر استقلالها بعد أكثر من مئة وثلاثين عاماً من الاحتلال، فسوف لن يطول الزمن حتى تنتزع فلسطين استقلالها، لتضيف إلى سِفْرِ التاريخ فصلا ختاميا لنكبة أريد لها أن تشوه التاريخ والجغرافيا معاً.
في متحف المجاهد الذي يحكي قصة الكفاح الجزائري ضد الاستعمار، تكاد تقسم أنك ترى صورة الكفاح الفلسطيني ضد الاحتلال والاستعمار؛ نفس المعاناة ونفس الإصرار ونفس العزيمة ..، نفس المذابح، ونفس العدوانية التي يتسلح بها المحتلون في مواجهة الشعوب التائقة إلى الحرية..القمع ذاته..والمعتقلات ذاتها..والكفاح ذاته..وفي النهاية، لا يبقى في الأرض إلا رملها وصخرها وماؤها وهواؤها، أما المحتلون الغرباء فيلملمون ما تبقى لهم ومنهم، ويغادرون أرضاً رفضتهم ولفظتهم..رحل المحتلون وبقيت الجزائر، وسيرحل المحتلون وتبقى فلسطين.
لم تتكلف الجزائر بقيادتها وشعبها إظهار حبها واحترامها ودعمها لفلسطين وشعبها وقيادتها، فحب الجزائريين لفلسطين خُلُق يتحلى به كل جزائري، واللازمة التي سيحفظها ويرددها جميع أبناء الشعب الجزائري بدون تكلف: "نحن مع فلسطين ظالمة أو مظلومة"، شعار أثبتت الجزائر في كل المنعطفات واللحظات التاريخية من عمر القضية الفلسطينية أنه ليس مجرد شعار لفظي أو شعوري فقط، بل موقف صبغ كل سياسات الجزائر نحو فلسطين، منذ أن كانت الجزائر أول دولة عربية تفتتح مكتباً للثورة الفلسطينية في عاصمتها عام 1963م ، أي قبل عامين من الانطلاقة الفعلية للثورة، مروراً باحتضان الجزائر على أرضها؛ أرض الشهداء والمجاهدين، كتائب الثورة الفلسطينية بعد الخروج من لبنان عام 1982م، ووصولا إلى الحدث التاريخي الذي رسم طريق التحرك السياسي الفلسطيني، والمتمثل في إعلان الاستقلال عام 1988م من قلب الجزائر العاصمة، هذا فضلا عن الدعم المالي والمعنوي المتواصل الذي تقدمه الجزائر بانتظام للشعب الفلسطيني.
أحد الوزراء الجزائريين لم يجد ما يعبر به عن مشاعره وهو يستقبل رئيس فلسطين في الجزائر إلا أن يقول: "نحن اليوم في عيد، نحن نشعر بالفخر والزهو أن نستقبل رئيس فلسطين، لأن في قلب كل جزائري حباً مطبوعاً لفلسطين وشعبها".
هكذا إذن، بكل العفوية الصادقة التي لا تعرف ولا تعترف في علاقات الأخوة بغير لغة الحب المتدفق في عروق الصادقين، الذين يعبرون عن مشاعرهم بغير تكلف؛ نحن اليوم في عيد، وهو تعبير رأيناه في عيون وملامح كل الجزائريين الذين كانوا يصطفون في الشوارع بتلقائية الصادقين، يلوحون بأيديهم لفلسطين التي تحل في ضيافة شقيقتها الجزائر.
هذا الحب الجزائري لفلسطين، والذي يصل في تعابيره ووهجه إلى مستوى العشق، تدفقت به عيون الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة، وهي تلمع ألما وأملاً عندما قلده الرئيس عباس وسام فلسطين، وعبرت عنه كلماته وهو يصر على أن يتجاوز اللقاء حاجز الوقت المحدد له، ثم يصر أيضا على تقليد الرئيس أعلى وسام جزائري، وكأنه يقول لفلسطين ورئيسها وشعبها: "نحبيكم، وسنظل نحبكم، ولن تقوى قوة في الأرض على فك عروتنا الوثقى التي نستمسك بها معكم، وسوف تظل الجزائر مع فلسطين ظالمة أو مظلومة".
شكراً يا جزائر..شكراً يا بلد المليون شهيد...شكراً يا عنوان الفداء والعطاء...وموعدنا سوياً في القدس العاصمة المحررة، حيث يفرح المؤمنون بنصر الله، وتعلو راية الحق الفلسطيني الأبلج فوق مآذن القدس وكنائس القدس، وكما انتصرت الجزائر وتحررت، ستنتصر فلسطين وتتحرر طال الزمن أم قصر، فانتظروا إنا منتظرون.
* قاضــي قضــاة فلسـطيـن
مستشار الرئيس للشؤون الدينية والعلاقات الإسلامية