مبروك لحركة التحرير الوطني الفلسطيني «فتح» احتفالها أول من أمس بعيدها اليوبيلي الخمسين.
في مناسبة كهذه تحتل الأولوية في الحديث ما قدمته حركة فتح للنضال الوطني الفلسطيني. وما قدمته كان كثيراً وأساسياً، ومن أهمه:
- مبادرتها الى بعث الهوية الفلسطينية بشكل قائم بذاته. صحيح أن الهوية كانت قائمة ولم تغب يوماً، ولكنها ظلت لسنوات بعد النكبة مندمجة مع هويات سياسية وفكرية متنوعة أُخرى.
- مبادرتها الى تبني إستراتيجية حرب التحرير الشعبية، والكفاح المسلح بوصفه أُسلوبها الأساسي، ومبادرتها الى ممارسة ذلك.
- القرار التاريخي الذي اتخذته بالتصدي لقوات الاحتلال في الكرامة والمواجهة البطولية له بالمشاركة الفاعلة لقوات الجيش الأردني. صحيح، كحقيقة أكيدة، أن كل من تواجد في أرض المعركة وجوارها من الفصائل الأُخرى شارك في القتال ببطولة، لكن قرار التصدي وقيادة المعركة عقدتا لحركة فتح.
- لعبت الدور الأول في تكريس منظمة التحرير الفلسطينية إطاراً موحداً للكيانية السياسية لكل الفلسطينيين، بالتعاون والمساهمة الفاعلة من التنظيمات الأُخرى والمستقلين. وكرست هذه الكيانية على المستوى الوطني والعربي والدولي.
- بوصفها التنظيم الأول، لعبت الدور الأساسي، وبمشاركة بقية التنظيمات، في تكريس وفرض نظام للعلاقة بين التنظيمات ظل قائما وفاعلا في ظل «غابة البنادق» كما كان يسميها الشهيد عرفات. هذا النظام قام على قواعد أساسية: أولها التعددية التنظيمية والسياسية والشراكة المتوحدة في إطار منظمة التحرير ومؤسساتها. وثانيها، قبول الاختلاف الفكري وحمايته من اي منع او تعد. وثالثها، اعتماد الديمقراطية أساساً وقاعدة للعلاقات الداخلية بشكل عام. ورابعها تحريم الدم الفلسطيني ومنع اللجوء الى السلاح لحل الخلافات التي كثيراً ما وجدت، وحول قضايا أساسية في بعض الحالات... ويمكن تعداد خامساً وسادساً وأكثر. وكانت قيمة هذا النظام تتجلى بأبهى صورها في المحطات النضالية الأساسية، كما في التصدي الموحد للاعتداءات الكثيرة التي تعرضت لها الثورة الفلسطينية، في كل الساحات.
هذا لا يلغي، حصول خروقات للنظام الموصوف من اكثر من نوع وفي اكثر من مجال، ولكنها لم تصل أبداً إلى ضربه أو تعطيله.
- ويجوز في هذا المجال إضافة تقديمها صفاً قيادياً واسعاً بمواصفات قيادية متميزة تحول معها معظمهم إلى رموز قيادية تحظى بالقبول والتقدير للشعب الفلسطيني، وسقط عدد منهم شهداء.
هذا على المستوى الوطني، أما على المستوى التنظيمي الذاتي، فيقف في مقدمة إنجازاتها، امتلاكها لديناميكية داخلية خاصة وقواعد تنظيمية طورتهما عبر السنين مكنتاها من ضبط الحياة الداخلية والتعامل مع المستجدات والمؤثرات سواء كانت خارجية أو داخلية، وللمراقب من خارج الحركة يبدو أن عنصرين من عناصر هذه الديناميكية لعبا دوراً خاصاً وهاماً:
الأول، هو التنوع الاجتماعي الواسع في عضويتها حتى وصفها البعض بانها «حركة الشارع الفلسطيني». والثاني، مرونة القواعد التنظيمية واتساعها.
والعنصران مستمدان ومنسجمان تماما مع التنوع الفكري المتعايش في صفوف أعضائها، في مروحة تمتد من الديني إلى القومي الى اليساري وصولا إلى الماركسي وحتى الماوي.
على هاتين القاعدتين الى جانب قاعدتين لا تقلان أهمية هما: الكفاحية بترجماتها المختلفة، وعمق علاقتها مع الجماهير، ظلت حركة فتح قادرة على الحفاظ على تماسكها التنظيمي وعلى التعامل مع واستيعاب أي تجنحات او محاولات انشقاق تعرضت لها خلال مسيرتها مهما كان حجمها وطابعها أو درجة جديتها وتأثيرها.
وبالمقابل مما تقدم، فان حركة فتح هي التي قادت سياسة التوجه نحو الحل السياسي السلمي عبر المفاوضات وما تستدعيه من تنازلات، واستطاعت ان تكرسها سياسة وطنية رغم اعتراضات عديدة ومقاومة عنيدة لهذا التوجه من اكثر من فصيل ومن قوى مجتمعية.
بدأ ذلك منذ العام 1974 حين قادت حركة فتح إقرار برنامج النقاط العشر، ثم تواصل عبر قنوات متعددة غالبها سري، ثم في مؤتمر مدريد، حتى وصل الى المباحثات السرية التي انفردت بها والتي نتج عنها اتفاق أوسلو وقيام السلطة الوطنية. وبغض النظر عن اي جدل تفصيلي حول هذا الاتفاق وبرنامجه وتطبيقاته فان جوهره يبقى هو اعتراف القيادة السياسية الفلسطينية النافذة بحق الكيان الصهيوني بالوجود والاستعداد للتعايش معه، وهو ما كسر طوق رفض الاعتراف العربي به، والى حد ما الإسلامي.
وكان من نتائج هذا الاتفاق على «فتح» ذاتها، أنها وصلت بالتدرج السريع الى التخلي عملياً وواقعياً عن الشكل المسلح لمقاومة الاحتلال، لصالح الانخراط شبه الكلي في خط المفاوضات السياسية وبالرعاية الأميركية المحتكرة غالباً. وبدا واضحاً أن الحركة لم تعد قادرة أو مهتمة بالجمع بين الشكلين النضاليين.
وهذا أدى، إضافة الى عوامل أُخرى، منها السلطة والوظيفة والراتب والقرض، الى تراجع واضح وملموس في كفاحية الحركة، والى تراجع وضعف شاب علاقتها بالجماهير. وتزداد قيمة هذا الأمر في ظرف برز على الساحة الوطنية قوة تصارع حركة فتح على برنامجها وعلى موقعها القيادي الأول الى درجة الاستعداد لشق وحدة النضال الوطني الفلسطيني ووحدة مؤسساته، وبالتوازي مع استبعاد الآخر الوطني والتدخل في الاتجاهات الفكرية المختلفة وتعبيراتها وصولا إلى منعها في التوقيت الملائم.
الكثيرون يتطلعون إلى المؤتمر العام لحركة فتح المفترض انعقاده في الفترة القريبة القادمة، والى كيفية تعامله مع الأوضاع العامة والداخلية بأمل الخروج بأفضل النتائج.
هذا التطلع ينطلق من الاهتمام بحركة فتح لدورها المحوري في عموم قضايا النضال الوطني ولوضعها القيادي في السلطة الوطنية ومنظمة التحرير.
كما ينطلق أيضا من القناعة أنها لا تزال التنظيم الأكثر تأهيلاً للوقوف في وجه الاتجاهات الفكرية والاجتماعية الظلامية وتعبيراتها السياسية.
وفي هذا المجال لا تفيد، وربما لا تصح، تعبيرات النصح والإرشاد ولا تعبيرات التحذير ولا تعبيرات « الـ يجب واللا بد»، فأهل مكة أدرى بشعابها.
ما يفيد هو تمني النجاح بأمل خروج المؤتمر بأفضل النتائج على كل الصعد الوطنية والتنظيمية.