لا يزال الانقسام الفلسطيني ومفاعيله وتعبيراته يقدم المشهد النشاز في صورة الوضع الفلسطيني. وهو مشهد لا يقع على حدود الصورة ولا في أحد زواياها البعيدة بما يمكّن من تجاهله، ولكنه يقع في مركز الصورة ويرمي بظلاله على كل جوانبها، بل إنه وكل ما أبعدته أحداث وظروف عن موقعه في مركز الصورة يهب فرسانه – فرسان الانقسام- ليدفعوه مجدداً إلى المركز.
لا يغير في هذا الوضع حتى الآن كل المناشدات الشعبية الصادقة، وكل الضرورات الوطنية التي تفرض الخروج منه، ولا تلك التي تتعلق بحياة الناس وحاجاتهم الأساسية والملحّة، ولا الاتفاقات والتفاهمات والإعلانات التي ليس أسهل من التوصل إليها إلا التنصل منها والانقلاب عليها، ولا تنفع معها حتى اللحظة مبادرات وطنية مخلصة من تنظيمات فلسطينية، مع تمني النجاح لها.
وكأنه مطلوب إيصال الناس إلى قناعة أن ما أخذ بقوة الانقلاب قدرٌ يستمر ويبقى، وترتب كل الأمور على التسليم ببقائه، وانه لن يزول الا بقوة انقلاب مضاد، بغض النظر عن شكله وأدواته. وهذه مصيبة وطنية متكاملة الأبعاد. وإلا، كيف يمكن استقبال مطالبة يحيى العبادسة النائب عن كتلة التغيير والإصلاح (حماس) كما وردت في صحيفة الحياة اللندنية بتاريخ 16 من الشهر الجاري، بـ «جمع الجهود لإسقاط عباس ( الرئيس) بتهمة الخيانة العظمى للشعب الفلسطيني وتعريض مصالح الشعب للخطر بإدامة الانقسام ومنع الوحدة الوطنية الفلسطينية، ومعاقبة قطاع غزة بحصاره، والتعاون مع الاحتلال في منع الإعمار، والتعاون مع الجهات الخارجية في محاصرة قطاع غزة من الخارج» ومعتبراً إياه «لم يعد شريكاً وطنياً حقيقياً».
اللافت، ان هذه التصريحات قد تم توزيعها من قبل الدائرة الإعلامية لكتلة «حماس»، بما يعني، بالحد الأدنى عدم رفضها لها. واللافت أيضا ان هذه التصريحات نشرت على نفس الصفحة مع كلام قاله السيد خالد مشعل في حوار مع صحيفة «الرسالة» التابعة لـ «حماس».
السيد مشعل قال كلاماً مختلفاً، فقد ركب الموجة الإيجابية واستعمل كلمات وتعبيرات منتقاة بعناية تضيع فيها المواقف الواضحة والمحددة، وتتوه في تضاريس التراكيب اللغوية الأمور العملية الواقعية المحددة وكيفية ترجمتها.
وإلا فكيف يمكن تفسير استمرار مشهد الانقسام، بل وتعمقه، على الرغم من كل المشاهد الكبيرة والهامة التي تحصل للقضية الوطنية الفلسطينية، سواء الإيجابي منها أو السلبي، فكلاهما يلتقيان على ضرورة إنهاء الانقسام.
أول المشاهد الإيجابية الكبيرة والهامة، هو حالة النهوض العالي والعنفوان الذي تعيشه الجماهير في جميع مناطق الوطن وفي مركزها القدس. وهذه الحالة الجماهيرية تقوم على قاعدة إرادة لا تلين وإصرار لا يضعف ومقاومة لا تتوقف ضد الاحتلال بكافة تعبيراته وكل اعتداءاته، وتمسك بالحقوق الوطنية الثابتة.
فهل تكون مكافأه هذه الجماهير وحالتها هذه بتعميق الانقسام؟
وثاني المشاهد الإيجابية الكبيرة والهامة، هو النجاحات التي تتحقق على المستوى الدولي حين تتسابق الدول، الأوروبية منها بالذات، إلى جانب منظمات وهيئات قارية ودولية، على إعلان تأييدها لحق الشعب الفلسطيني بدولة مستقلة. وإذا كان هذا التأييد لا يصل حتى الآن إلى الاعتراف المباشر بالدولة الفلسطينية، فانه يفتح الطريق أمام تطورات إيجابية بهذا الاتجاه، في نفس الوقت الذي يعني موقفا قاطعا ضد الاحتلال الصهيوني واستمراره وضد سياساته وتعبيراته، ويعني المطالبة بوجوب انتهائه، إضافة إلى الوصول بالقضية الوطنية إلى مجلس الأمن ومطالبته بقرار بإنهاء الاحتلال خلال ثلاث سنوات وما يدور حول هذا الأمر من جدل تنشغل فيه الكثير من دول العالم، ومن صراع يؤكد قدرتنا على التمسك بمواقفنا الملتزمة بثوابتنا الوطنية، رغم كل الضغوط والتهديدات. ألا يفرض هذا المشهد أعلى درجات وحدة الموقف ووحدة العمل وتناغمه؟
وأول المشاهد السلبية الكبيرة والهامة، هو التعثر الكبير في عملية إعادة إعمار غزة، وهو ما يلقي بعذاباته ومآسيه وتشريده على مئات آلاف المواطنين في القطاع. الانقسام الفلسطيني وتعبيراته المختلفة من تنازع الصلاحيات مع حكومة الوفاق الى تعدد قنوات الاتصال مع الهيئات الدولية المعنية الى تعبيرات أُخرى، يشكل عاملا من عوامل التعثر الى جانب عوامل أُخرى إقليمية ودولية.
وليس مهماً ترتيب عامل الانقسام بين تلك العوامل الأُخرى ولا درجة مسؤوليته، فالأساس أن هذا العامل ما كان له أن يوجد بتاتاً ولا شيء يمكن أن يفسر أو يبرر وجوده أصلاً. هل هكذا يكافأ أهل القطاع على صمودهم وبطولاتهم في وجه العدوان، وتكافأ الجماهير في كل مناطق الوطن التي التحمت بهم وخاضتها معهم معركة وطنية بامتياز.
أما ثاني المشاهد السلبية الكبيرة والهامة، فهو التراجع الكبير في الموقف العربي الرسمي، والشعبي أيضاً وإن بدرجة أقل، في دعمه وإسناده للنضال الوطني الفلسطيني وقضاياه العادلة. وذلك أساساً بسبب الانشغال العميق بقضايا وصراعات شديدة التعقيد والخطورة.
ألا يفرض هذا التراجع التعويض عنه، ولو جزئياً، بتقوية لحمة الوحدة الوطنية الفلسطينية، بدلاً من تعميق الانقسام، وبدلاً من الانخراط، ولو المحدود، في محاور وصراعات الوضع العربي، في تداخله مع الوضع الإقليمي، ومشاريعه المتصادمة؟.
ويمكن إضافة مشهد سلبي ثالث، يتمثل في حالة السعار التي تنتاب دولة الاحتلال على شكل عدوانات عسكرية مباشرة كما على غزة، واعتداءات واعتقالات وتصفيات جسدية وتضييقات في الضفة، وعلى شكل اعتداءات ممنهجة على القدس وعلى المسجد الأقصى، وتوسع استيطانه المنفلت من كل عقال، ثم على شكل قوانين تمييزية عنصرية وقمعية موجهة أساساً ضد الأهل في ارض 48، وضد كل مقاوم للاحتلال حتى بأبسط الوسائل.
ألا يفرض هذا السعار أعلى درجات الوحدة والتماسك؟
إلى متى سيستمر هذا المشهد النشاز؟