تاريخ النشر: 18 كانون الأول 2014


آراء
إسرائيل في مواجهة العالم
الكاتب: عبد المجيد سويلم


قد تتمكن الولايات المتحدة وهي ترمي بكل ثقلها من جديد من احباط التوجه الفلسطيني إلى مجلس الأمن، وقد تتمكن إسرائيل من الإفلات (مؤقتاً) من قرار يحدد فترة زمنية لإنهاء احتلالها للأرض الفلسطينية، وقد تضطر القيادة الفلسطينية إلى "الالتجاء" إلى الأفكار الفرنسية لتفادي الفيتو الأميركي مع كل ما ينطوي على هذا الالتجاء من خسارة (نسبية ومؤقتة)، لكن الذي لم يعد لا بمقدور الولايات المتحدة، ولا إسرائيل الإفلات منه هو تقدم الحقيقة الفلسطينية بما تمثله هذه الحقيقة من مضامين جوهرية على مستوى ما تعكسه من أهداف وطنية ومن حقوق ثابتة وغير قابلة للتصرف (حق تقرير المصير) والوصول إلى الاستقلال الوطني على حدود الرابع من حزيران.
وإذا أردنا أن نرى الأمور على حقيقة ما هي عليه فإن الدعم الأوروبي للقضية الفلسطينية ولحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته الوطنية المستقلة على أراضيه المحتلة منذ عام 1967 قد أحدث في الواقع الدولي المحيط بالقضية الوطنية للشعب الفلسطيني انقلاباً بكل ما في هذه الكلمة من معنى. فالاعتراف بالدولة الفلسطينية على حدود الرابع من حزيران لم يعد إلاّ مسألة وقت وظروف وآليات وإنهاء الاحتلال أصبح مطلباً واستحقاقاً طبيعياً ومباشراً لهذا الاعتراف، وشرعية الاحتلال، وكل ما بناه وكل ما حاول تحويله إلى "أمر واقع" غير قابل للتجاوز هو اليوم في مهب الريح وأصبح لا يساوي شيئاً من وجهة نظر أوروبا ومن وجهة نظر القانون الدولي، وتحولت منظومات الاحتلال كلها إلى منظومات لا تملك أية درجة من درجات الشرعية الدولية.
وحتى لو استطاعت الولايات المتحدة "حماية" إسرائيل من قرار أممي يطالبها بإنهاء الاحتلال خلال عامين فإنها (أي الولايات المتحدة) ستجد نفسها في غضون أسابيع قليلة قادمة، أو ربما عدة شهور قادمة على أبعد تقدير أمام ملاحقات ومطاردات مباشرة لمنظومات هذا الاحتلال الأمنية والعسكرية والاقتصادية والثقافية والسياسية من قبل دول العالم ومن قبل شعوب الأرض وتحديداً من قبل مؤسسات القانون الدولي وخصوصاً محكمة الجنايات الدولية.
الولايات المتحدة تدرك الآن أن زمن الإفلات الإسرائيلي قد ولّى إلى غير رجعة، وتدرك أيضاً أن التفاهمات العربية الأوروبية كتعبير عن التفاهم الفلسطيني الأوروبي أصبح وتحول في الواقع إلى قوة ضغط هائلة على الولايات المتحدة لرفع الغطاء عن الجنون السياسي لإسرائيل أو ربما رفع الغطاء عن السياسة الإسرائيلية التي تتنكر للحقيقة الفلسطينية وتتنصل من رؤية وقرارات الشرعية الدولية.
مشكلة الولايات المتحدة على هذا الصعيد أكبر من أن تتمكن من الالتفاف عليها.
فإسرائيل بنسختها اليمينية واليمينية المتطرفة هي التي تشكل في الواقع العقبة التي تحبط قدرة الولايات المتحدة على المناورة والمراوغة والالتفاف.
والمرونة الفلسطينية والحنكة والصمود الفلسطيني (المرونة والصمود معاً) هو بدوره هو ما يحدّ من قدرة الولايات المتحدة على مواجهة الحقيقة الفلسطينية.
لا أحد في عالم اليوم يناقش في حدة المأزق الإسرائيلي، ولم يعد من عاقل واحد لا يرى في الجنون الإسرائيلي كارثة سياسية تحدق بالمنطقة وبإسرائيل نفسها، لكن ليس واضحاً بعد ـ على ما يبدو ـ للكثيرين حتى الآن ان المأزق الإسرائيلي سيؤدي إلى مأزق أميركي بحجم أميركا وبحجم دورها وبحجم مكانتها الدولية أيضاً.
تهديد الأميركان للشعب الفلسطيني (المعلن والمبطّن) هو تهديد فارغ ولا يساوي في الواقع العملي شيئاً يستحق التوقف عنده.
فالكلام عن خطر إسرائيل على إسرائيل نفسها ومن نفسها قالته الإدارة الأميركية علناً وصراحة.
الفرق الوحيد الذي "أجبر" الولايات المتحدة على التجنّد الكامل لاحباط التوجه الفلسطيني هو هذا الموقف الأوروبي المتدحرج باتجاه الاعتراف بالدولة الفلسطينية.
لو كانت الولايات المتحدة واثقة من أن المواقف الأوروبية هي مجرد مواقف تلويحية لما "عسكر" السيد كيري في روما ليلتقي بكل الأطراف.
ولو كان السيد كيري واثقاً من  ان التوجهات الفلسطينية هي مجرد توجهات تلويحية لما "قذف" باستخدام الفيتو في وجه عريقات.
ولو كان لدى السيد كيري شك في وقوف العرب خلف القيادة الفلسطينية لما كان حاله هو الحال الذي عبرت عنه الخارجية الأميركية.
أثناء كتابة هذه المقالة يكون البرلمان الأوروبي قد صوت لصالح الاعتراف بالدولة الفلسطينية وهو قرار كبير وتاريخي على كل حال، وسيكون البرلمان اللوكسمبورغي قد صوت لصالح القرار، وسيكون اجتماع جنيف قد ندد بالاحتلال وممارساته، وبذلك تكون إسرائيل قد تلقت ضربات موجعة وتكون الولايات المتحدة "تكظم غيظها" لأنها لا تملك غير قرارات لدعم احتلال بغيض ومنبوذ، وعما قريب سيتحول إلى احتلال مطارد وملاحق في كل أرجاء الأرض.
الحقيقة الفلسطينية تفرض نفسها على أجندة المجتمع الدولي كما لم يسبق أبداً، وإسرائيل تعزل وتحاصر كما لم يسبق أيضاً، والولايات المتحدة تجد نفسها في منطقة أو مساحة كلفة بقائها فيها تزيد يوماً بعد يوم، وهذه الكلفة هي تآكل في دورها ومكانتها وفي قدرتها على التأثير الحقيقي على أوروبا وعلى العالم.
في واشنطن لعبة شراء إسرائيل وبيع العرب مستمرة ولكن شراء إسرائيل وخسارة أوروبا مسألة مختلفة وحتى أن شراء إسرائيل وخسارة العرب هي مسألة مختلفة أيضاً.
الولايات المتحدة ستكابر ولكنها في القريب وربما القريب العاجل ستدفع ثمن هذه المكابرة من دورها ومكانتها وتحالفاتها، وهو أمر لا تقوى عليه مطولاً ولن تتمكن من متابعة السير فيه، وهذا هو الوجه الآخر للمأزق الإسرائيلي.