بالصمت (إذ يخجل الكلام ان يحضر أمام أناقة وفخامة هذا النص) فقط أستضيف هنا في زاويتي نص الشاعر وليد الشيخ في تقديمه للشاعر غسان زقطان في أمسية توقيع الأخير لديوانه (لا شامة تدل عليّ). ليلة الإثنين في متحف محمود درويش.
-------
وحيداً كندمٍ غامض، يقترح جماليات فاتنة على حواف الاستعارة واخواتها، ينشد التقشف دون أن يصل اليه، ماضياً في البلاغة حد تجريدها من ثوبها الثقيل.
لقطة بعد لقطة، يواظب غسان زقطان على تفكيك الرواية الشخصية وإعادتها الى الأيقونة خالصة من كل سوء، حتى بعد أن مد يديه لمجرد التأكد.
خلقَ شامةً شعريةً تدل عليه، رافعاً مقامات الحجاز من صحرائها الى التلال، معيداً للقصيدة براءة الحقل، كي يظل البوح الرعوي طازجاً وشهياً، وفي ذهابه الدؤوب نحو تفاصيل الآن وإشارات الأمس، ظلت قصائده قلقة مثل بريد متأخر.
متكئاً على ذاكرة تصطاد اللون والرائحة وحفيف الثياب في الممرات، كذئب يجوس العتمة بفطنة ودهاء، عارفاً أن الغنيمة التي يشتهي، قصائد طالما أراد لها أن تذهب نحو مقاصدها عارية من نافل القول.
صغيراً، على حافة النوم مأخوذاً بالتراتيل، ألقي القبض عليه أول مرة، حين أشار الوشاة إليه، متلبساً وشغوفاً بالشرفات التي تتزين يوم الاحد، في صباحات بيت جالا، ليتعلم درس الاختلاف الأول.
وعلى طاولات السجال الحار، يواصل بأناقة جارحة مداواة الخصوم، الذين ظهروا مثل نباتات شقية، لم يكن ليتعرف إليها. في ذهابه نحو نجمة الشعر، وصعوده سلم اللغة حيث القطاف، يقلم أصابع الاتهام، كي لا تشير الضحية الى ذاتها.
على كتفه الآن، نجمة الشعر العالمية، الكتف ذاتها، التي حملت الكلاشينكوف حين ظن الفتى أن بمقدوره أن يتناول وجبة الافطار في الوطن، وأن يكمل الطريق نحو تل زكريا.
كلما أقرأه، أحتار إن كان يمسك الشعر من غرته أم من يده؟ لكنه بكل حال يأتينا بقصائد محكمة كمراسيم رئاسية، وطائشة كبيانات أحزاب غير مسجلة، ومراوغة كإناث الطير.
يأخذ غسان زقطان الروائحَ والبيوتَ والأسماءَ والأقاربَ، وسرباً من الراحلين الى عتبات مدارس الأونروا ومؤن المخيم، ويتفقد خنادقَ مقاتلين، كانوا في الأصل شعراء، أصابهم داء اليسار المزمن.
فلم ينتصروا تماماً، ولم يهجروا المعلقات
لكنهم علقوا في كمائن من القلق.
يبدو أن الطيور خلفه تحمل العش كبيت مستحيل.
هو الذي اعتاد ترتيب الحقيبة، وشرب القهوة وانتظار سيارة الجسر.
بغواية صوته، وذكاء مفرداته، وفرادة تجربته في بلد تتشابه فيها الأشياء، سيواصل غسان زقطان خلق أعذار بالية تبرر غيابه، كادعائه أن الإيميل لا يستقبل الرسائل صباحاً
أو أن ساعته تأخرت كعادتها
أو أن سلمى جاءت من قصيدة الترنيمة كأعطية آلهية.
يستعجل الزمن ليتذكر، ويعيد النظر في الندم، ويأتي بالمنفى كاملاً الى البيت، لا لشيء سوى رغبته في ترتيب الوصف.
شقيق المطارات، وابن الغياب، وشاعر التذكر.