استغلت دولة الاحتلال الاسرائيلي الثورات والانتفاضات العربية لفرض حل من طرف واحد للصراع الفلسطيني الاسرائيلي هو «الابارتهايد» الفصل العنصري وتصفية القضية الفلسطينية على ارض الواقع. وقد استجاب النظام الدولي بشكل مباشر وغير مباشر مع الحل الاسرائيلي وذلك بوضع ملف الاحتلال الاسرائيلي للاراضي الفلسطينية على الرف او على هامش الاهتمام الدولي. غير انه لم يمض طويل وقت قبل أن يستعيد الشعب الفلسطيني حضوره ويفرض قضيته مرة أخرى على الاجندة الدولية. كان ذلك بفعل انتفاضة القدس وصمودها وتحديها البطولي لاعمال التطهير العرقي العنصري، وبفعل معارك الدفاع الجماهيري عن الارض في المناطق المسماه ( ج ) وبفعل مقاومة الشبان والشابات في الخليل والمخيمات وعلى الحواجز وكل مواقع التماس مع جدار الفصل العنصري والمستوطنات. وبفعل صمود وتحدي قطاع غزة ومقاومته الباسلة وردعه البطولي للاعتداءات الاسرائيلية وحرب التدمير الوحشية. وبفعل رفض منظمة التحرير الاستمرار في المفاوضات الخادعة التي استخدمتها دولة الاحتلال كغطاء لتعميق احتلالها ومضاعفة استيطانها ونهبها للارض وفرض حل الابارتهايد العنصري البشع.
صمود ومقاومة واحتجاج وعدم استكانة شعب أمام غطرسة القوة لم تذهب سدى، فقد ترك تاثيرا قويا وغير مسبوق في ضمير ووجدان شعوب العالم التي بدأت تنتصر للشعب الفلسطيني وقضيته ومطالبه العادلة، من خلال المقاطعة الاقتصادية، للسلع الاسرائيلية وسلع المستوطنات والمقاطعة الاكاديمية المتنامية لدولة الاحتلال والتي كان آخرها قرار جمعية الاكاديميين الامريكان التي تضم اكثر من 3 آلاف أكاديمي في ولاية كاليفورنيا وحدها بمقاطعة اسرائيل اكاديميا. انتقل حراك الشعوب والمجتمعات المدنية الى البرلمانات التي اتخذت مواقف جريئة مؤيدة لحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره. والى مواقف الدول التي اتسعت دائرة تأييدها ودعمها لقرارات مؤيدة لحقوق الشعب الفلسطيني ورافضة لسياسات الاحتلال، والى مواقف المنظمات والهيئات الدولية التي ترحب بانضمام فلسطين اليها كعضو كامل العضوية.
نضال الشعب الفلسطيني المتواصل والعنيد أثر ايضا على حكومة الاحتلال التي انفرط ائتلافها وبرلمانها كتعبير عن افلاسها السياسي العميق. انفرطت تحالفات واحزاب ، واعلنت تحالفات وأحزاب، واندلعت الحروب الداخلية بانتظار نتائج الانتخابات الجديدة. غير ان القوى السياسة يمينا ويسارا ووسطا التي دخلت في اتون أزمة لم تستخلص الدرس، ولا ترغب في استخلاص الدرس بأن احتلال شعب آخر والسعي الدائم للسيطرة عليه هو سبب الازمة الدائمة. إن ذلك يرجع لكون الاحتلال ما يزال قضية رابحة ويعود بالنفع والفوائد الكبيرة ليس فقط على ثلاثة ارباع مليون مستوطن والمؤسسة العسكرية والمؤسسة الدينية بل يعود بالنفع على اوساط كبيرة من اسرائيليين آخرين وعلى شركات ورأسمايين وتجار ومقاولين ومزارعين وغيرهم. طالما بقي الاحتلال رابحا لن تتبرع قوى سياسية بالتراجع عنه وبالسماح الطوعي لانعتاق الشعب الفلسطيني. والاحتلال سيكون قادرا على تجاوز هذه الازمة كما تجاوز سابقاتها طالما ظل الربح والفوائد الكبيرة سيد الموقف. حتى الان لم تتعرض دولة اطول احتلال في القرن الواحد والعشرين لعقوبات وضغوط، حتى الان تعامل دولة الاحتلال كدولة فوق القانون. لكن الحراكات العالمية من خارج الدول بدأت تعاقب وتضغط على الاحتلال، وتؤسس لمسار قابل للتطور وصولا الى تغيير قواعد اللعبة .
اجتماعات الوفود في روما جاءت لتقطع الطريق على المسار الجديد، ولمحاولة العودة الى سياسة إدارة الصراع، والعودة الى المفاوضات والوعود والرشاوي وكسب الوقت. لكن كل محاولة تنطلق من قواعد اللعبة السياسية القديمة لا تجدي ولا تقنع الشعب الفلسطيني الذي سحب ثقته الكاملة من أصحاب الوعود الكاذبة. ولن يكتب لها النجاح. لا يبدو ان الادارة الامريكية ترغب في تغيير قواعد اللعبة السياسية. ولا ترغب في اكثر من توبيخ نتنياهو الذي احرجها وشوش على تحالفها الدولي ضد الارهاب وافقدها هامش المناورة مع الراي العام العربي. هذه الادارة ستتبادل الاتهامات سرا مع نتنياهو ، وربما تسربها لوسائل الاعلام. ما يهم الادارة الامريكية في اجتماعات روما هو ثني القيادة الفلسطينية عن الذهاب الى مجلس الامن والى المؤسسات والاتفاقات الدولية، ما يهمها ان لا تدان مرة أخرى من الشعوب العربية باستخدام الفيتو او بتعطيل النصاب انها تحاول قطع الطريق على ذلك.
الادارة الاميركية تتبادل التهم مع سلطة الاحتلال سرا، وتمارس الضغط والعقوبات على الضحية علنا، انها غطرسة السياسة الامريكية المترافقة مع غطرسة القوة الاسرائيلية. إزاء ذلك، لا بديل امام الشعب الفلسطيني غير الخروج من المسار الامريكي الذي عمق الاحتلال وضيق الخناق على حياة شعب بأكمله. والدخول في مسار مستقل، يفتح الابواب أمام الشعوب والقوى الجديدة ودول لا تتعامل بعقلية الهيمنة الاستعمارية الغابرة. مقارنة بما تفعله دولة الاحتلال على الارض من تطهير عرقي وخنق واذلال وحصار لا يوجد لدى السواد الاعظم من الشعب الفلسطيني ما يخسره. إذا ارادت الولايات المتحدة واوروبا ودول عربية معاقبة الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال لانه يطالب بحريته وبحقوقه المشروعة وبتطبيق قرارات الشرعية فلتفعل ذلك. وإذا ارادت اسرائيل ان تعيد احتلالها المباشر للمدن الفلسطينية وتعيد السيطرة الادارية والمدنية فلتفعل ذلك. فالاحتلال المباشر للمدن اهون بكثير من الاحتلال غير المباشر. قطعا سيدفع الشعب الفلسطيني الثمن، ولكنه سيكون في موقع المتفوق اخلاقيا وانسانيا وسيشد اليه شعوب العالم وكل القوى المنحازة لقيم الحرية وحقوق الانسان وحق الشعوب في تقرير مصيرها.نحن نخسر الكثير في حالة الاستجابة لمشيئة المحتلين والحكومة الامريكية المدافعة عنهم. ونحن سندفع الثمن في حالة رفض الاستجابة لسياساتهم المذلة، مع فارق اننا سنتخلص من القيود ومن سياسة الاعتماد على الغير ومن المهانة وعلاقات التبعية. سنتخلص من عوامل الكبح والخنق والتخريب المنهجي للمجتمع.
لا مناص من الخروج من مسار دوام الاحتلال والدخول في مسار التحرر من الاحتلال. عملية الانتقال صعبة وشائكة لان المرحلة الجديدة تحتاج الى حامل جديد وبنية جديدة. انه التحدي الكبير الذي يستدعي التدخل والمبادرة والابداع والشجاعة والثقة والحكمة.
Mohanned_t@yahoo.com