مبكّراً دخل فصل الشتاء على قطاع غزّة، فيما الناس لم يتمكنوا من تحضير ما يمكّنهم من اتقاء البرد، وسقوط الأمطار. نعم توقفت الحرب الإبادية والتجويعية بما كانت عليه قبل دخول «خطة ترامب» حيّز التنفيذ، مع أن الأوضاع قابلة للانفجار، بسبب الصعوبات التي تواجهها «الخطة» التي لم تنتقل إلى المرحلة الثانية، لأسباب إسرائيلية وأميركية.
الخيام بالية، لمن يملك خيمةً أو شادراً، وما توفّر منها غالي الثمن، والأسواق تخلو من الملابس الشتوية والأغطية المناسبة، وأيضاً وسائل التدفئة.. محظوظ من يملك سقفاً لم ينهَر كلياً، والأغلبية لا يملكون مثل هذه «الرفاهية».
قنوات الصرف الصحّي قد تعرّضت للتدمير تماماً، مثلما تعرّضت وسائل توفير المياه الصالحة وغير الصالحة للشرب، بعد أن تعرّضت الآبار، والأنابيب لتدمير همجي خبيث ومقصود، ما يؤدّي إلى تجمّع مياه الأمطار وتدفّقها على الخيام، فضلاً عمّا ينتج عن ذلك من تراكم المياه وخلق بيئة لنشاط الأمراض والحشرات.
الناس يفتقدون إلى الكثير من أنواع الطعام، عدا المعلّبات، وبعض المواد الأساسية، وكثير من الناس لا يستطيعون شراء ما تيسّر حتى لو أن أسعارها انخفضت، وذلك بسبب فقد السيولة والدخل. المستشفيات لا تزال تعاني من نقص المستلزمات الطبّية والأجهزة والأدوية، ما يعرّض حياة مئات الآلاف للخطر بما في ذلك الأطفال وكبار السنّ.
انتقل حال الناس من المعاناة؛ بسبب حرب الإبادة الهمجية، إلى حرب القتل بالمرض، وغياب الأطعمة التي تعزّز المناعة، كالبروتينات واللحوم والدواجن والأسماك، وانعدام سبل الحياة.
يعلم الكلّ أن دولة الاحتلال استخدمت المساعدات في حربها على الفلسطينيين ما يعرف بـ»حرب التجويع»، في إطار ما تقول السياسة الرسمية الإسرائيلية: إنه «لتحقيق الأهداف والنصر المطلق، وسلام القوّة».
ولكن في ضوء الجواب المعروف بشأن مسؤوليات الولايات المتحدة الأميركية عن استمرار تلك الحرب البربرية، فيما هي الأقدر على الضغط على دولة الاحتلال لوقفها، لكنها تساوقت مع سياسات الأخيرة في هذا المجال.
كثيراً تحدث دونالد ترامب عن تعاطفه مع الأوضاع الإنسانية الكارثية التي يعانيها سكان القطاع، وكثيراً ما تحدث أنه طلب من دولة الاحتلال فتح المعابر وتسهيل تدفّق المساعدات، ولكن النتيجة لم تتغير. كان من المفروض، حسب «خطّة ترامب»، أن تبدأ عملية تدفّق المساعدات بواقع 600 شاحنة يومياً بمجرّد الإفراج عن الرهائن الإسرائيليين، ولكن لا الدولة العبرية التزمت، ولا أميركا ضغطت. أخيراً وقبل نحو عشرة أيام قررت الإدارة الأميركية أن تسحب من دولة الاحتلال المسؤولية عن إدارة إرسال ووصول وتوزيع المساعدات، لكن شيئاً لم يتغيّر.
الناس بحاجة إلى الخيام، والبلديات بحاجة إلى معدّات ثقيلة لكي تقوم بفتح الطرق، وترميم شبكات المياه والصرف الصحّي، وإزالة بعض الركام، ولكن ما دخل من تلك الآليات، وبأعداد وأنواع محدودة، كانت فقط للمساعدة في انتشال جثث الرهائن.
هذا يعني أنه لا يمكن المراهنة لا على دولة الاحتلال التي تثبت كل مرة أنها لا تلتزم بأي اتفاقات أو تعهدات إلّا بما ينسجم وأهدافها، وأيضاً لا يمكن المراهنة على أميركا التي تلتزم الأهداف الإسرائيلية وتسعى لتحقيقها، بعد أن تفشل دولة الاحتلال في ذلك. في السياق لا بد من التنويه إلى أن الأخيرة تقوم باستخدام جمعيات وهميّة، بغطاءات إنسانية، لتهجير سكان القطاع إلى خارجه.
هذه قضية ليست قابلة للتشكيك بعد أن كشفت جنوب إفريقيا وصول مجموعتين بنحو 300 غزّي، من دون جوازات أو بجوازات منتهية، ومن دون أختام، وعبر رحلات جوية غير موسومة.
على أن المشهد المأساوي الذي يعيشه سكان القطاع، قبل وبعد توقّف الحرب الهمجية، لا يرسم لوحده المشهد الذي يلفّ المنطقة، والتداعيات التي أحدثتها غزّة على المستويَين الإقليمي والدولي.
من دون مبالغة، أو محاولة لتجميل البشاعة، فقد حرّكت غزّة جملة من العوامل الجادّة والمؤثّرة، ليس فقط على صعيد ما تعانيه دولة الاحتلال وما تشهده أميركا من تحوّلات إستراتيجية هائلة في غير صالحهما.
هي ثلاث سنوات متبقّية على ولاية ترامب، إذا نجح في الاستمرار حتى يحصل الانقلاب التاريخي في غير صالح دولة الاحتلال ووظيفتها وفي المنطقة. حتى حركة «ماغا»، التي نشأت تحت شعار «لنجعل أميركا عظيمة مجدداً»، قد أخذت تتصدّع، وتشهد تمرّدات وانقسامات جوهرها هل أميركا أوّلاً أم أن دولة الاحتلال أوّلاً.
حسب جنرال أميركي سابق، فقد أنفقت أميركا 13 تريليون دولار على حروبها لحماية دولة الاحتلال منذ العام 2001.
المواطن الأميركي أخذ يصحو على حقيقة أن أموال الضرائب التي يدفعها لتحسين مستوى حياته، تتسرّب لصالح الإنفاق على حروب لحماية دولة الاحتلال. بعض هذا الجدل، يشير إلى أن المواطن الأميركي، الذي يدفع الضرائب، يعيش حياةً أقلّ جودة من حياة الإسرائيليين.
الجدل مفتوح ويتّسع حول دور اللوبي الصهيوني في أميركا في إقرار سياسات الإدارات الأميركية، والمؤشّرات تفيد بأن دوره يتراجع بقوّة وباطراد.
إذا كان الجدل في أميركا يدور حول أولوية الاهتمام، وطبيعة العلاقة مع دولة الاحتلال، وما إذا كانت الأخيرة قد أخذت تفقد دورها التقليدي، فإنه لا بدّ من الإشارة إلى تقصير العرب، في توظيف مواردهم وثرواتهم وأوراق قوّتهم باتجاه إنهاء الدور الوظيفي للكيان المحتلّ، وإضعاف حاجة «الغرب» له.
والآن ثمّة مشروع قرار أو بيان أميركي لمجلس الأمن بشأن غزّة، و»خطّة ترامب»، ينطوي على اشتراطات إسرائيلية تحيله إلى أداة لتحقيق أهدافها.
اعترضت المجموعة العربية والإسلامية على النصّ، ونجحت في إدخال بعض التعديلات عليه، ولاحقاً رحّبت به، وكذلك السلطة الوطنية الفلسطينية، على الرغم من عدم وضوح المسار السياسي الذي يتعلّق بالدولة الفلسطينية، وطبيعة مهام «القوّة التنفيذية» التي ستعمل على توفير الأمن في القطاع.
استعجل العرب والمسلمون والسلطة الوطنية في منح التأييد لمشروع القرار الأميركي، وكان عليهم انتظار وممارسة المزيد من الضغط على الإدارة الأميركية لتحسين القرار، الأمر الذي دفع روسيا والصين لتقديم مشروع قرار آخر في مواجهة المشروع الأميركي.
وبصرف النظر عن القرار الذي سيحظى بموافقة مجلس الأمن، إلّا أنّ تقديم روسيا والصين لقرار آخر يشير إلى بداية انخراط عملي للمرّة الأولى لكلّ منهما في الصراع الدائر في المنطقة، من بوّابة قطاع غزّة والقضية الفلسطينية.