كتب يوسف الشايب:
استرجع الفنان الفلسطيني خليل أبو عرفة، ذكرياته المبكرة عن احتلال القدس في العام 1967 والصدمات التي عاشها، خاصة فقدان جزء كبير من المدينة، واحتلال باب العامود، ومشاهداته للعنف والتفاصيل المرعبة التي تركت آثاراً حفرت عميقاً في ذاكرته، مشيراً إلى أهمية عدم التهرب من الواقع والتمسك بالهوية الوطنية، حيث كان موقف والده مُشجعاً على البقاء في القدس وعدم الرحيل مثلما فعل جيرانه، راوياً كيف أن والده، الذي كان ناشطاً سياسياً وصديقاً لمختلف التيارات، غرس فيه حب الثقافة والفن منذ طفولته، بحيث كان يتردد طفلاً على مكتبة والده المليئة بالكتب، ما أثر بشكل كبير على تفكيره وتوجهاته لاحقاً.
كان ذلك، في الحواريّة الأحدث من سلسلة حواريّات "تاريخ الفن"، في مكتبة رام الله العامة، مساء أول من أمس، ويديرها الشاعر والأكاديمي إيهاب بسيسو، بتنظيم من بلدية رام الله.
وأشار أبو عرفة إلى أن مراحل الطفولة والمواقف التي عايشها شكلت نوعاً من الصدمة التي أثرت على وعيه وتفكيره حتى الآن، مُعبراً عن الصلة بين ما حدث في القدس والمجازر المستمرة في غزة، وكيف أن تلك المشاهد تظل عالقة في الذاكرة وتؤثر على فهمه للأحداث الجارية.
واستذكر أبو عرفة كيفية تعلمه للخط العربي على يد معلمين بارزين، ما ساهم في تطوير مهاراته الفنية، وهو من الشخصيات البارزة في مجالات الفنون البصرية والتشكيليّة، وأحد العلامات الفارقة في فن الكاريكاتير.
تحدّث أبو عرفة عن مسيرته الفريدة التي امتدت لأكثر من أربعين عاماً، دمج خلالها ما بين الفن، والسياسة، والعمارة، والأكاديميا، والصحافة، والكاريكاتير بطبيعة الحال، هو المولود في البلدة القديمة من القدس، خمسينيات القرن الماضي، وعُرف بإسهاماته الكاريكاتيرية في الصحف الفلسطينية ودوره في العمل الفني الذي يعكس تجربة الشعب الفلسطيني ومعاناته، علاوة على تجربته النضالية ضد الاحتلال الإسرائيلي، حيث تعرّض للاعتقال عدّة مرات، مشدداً على أهمية الربط ما بين الحركة الفنية الفلسطينية والتاريخ النضالي للشعب الفلسطيني، والذي من شأنه أن يجعل التجربة الفنية جزءاً أساسيّاً من الهوية الوطنية.
بعد إنهاء دراسته، حصل على منحة دراسية لدراسة الهندسة المعمارية في الاتحاد السوفييتي، ما فتح له آفاقاً جديدة، وجعله يشارك في ترميم العديد من الآثار في المدينة المقدسة، خاصة في المباني التي تعود للحقبة المملوكية، كما أسهمت فترة إقامته هنا في توجيه نشاطاته السياسية، بحيث انضم إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وشارك في عدّة تظاهرات وأعمال احتجاجية، فعُرف بنشاطه السياسي والفني.
وسرد أبو عرقة حكاية انتقاله للدراسة في المدرسة الهاشمية، سبعينيات القرن الماضي، للفرار من براثن فرض المنهاج الإسرائيلي، ما يعكس الوعي السياسي الذي تشكل إثر احتلال الأرض الفلسطينية في العام 1967 لديه ولدى أبناء جيله من الطلبة، وعبر عن ذلك بإصدار مجلة حائط مع أصدقائه، شكلت نقطة اكتشاف موهبته في الكتابة والرسم.
وبرزت موهبة خليل أبو عرفة في الكاريكاتير، منذ ذلك الحين، بحيث ارتبطت بشكل وثيق بالاحتلال، وبعد عودته من الاتحاد السوفيتي، حفظت له الصحافة المحلية مجالاً للانطلاق في مسيرته الفنية كرسّام كاريكاتير، لافتاً إلى أن تجربة الاغتيالات السياسية شكلت جزءاً من الوعي الفلسطيني فيما يتعلق بهذا النوع من الفنون، وإلى أن على رسامي الكاريكاتير التحلّي بالحذر في التعبير عن آرائهم، مسترجعاً "الحادث المؤسف الذي تعرض له الفنان ناجي العلي، واغتيل نتيجة لجرأته في التعبير عن القضية الفلسطينية، وهو ما كان مع يوسف نصري نصر، الذي تولى تحرير صحيفة الفجر، وكان يتمتع بشجاعة كبيرة في تناول القضايا الحساسة، ما جعله هدفاً للتهديدات والإخفاء، منذ عقود، نتيجة لرسوماته الجريئة"، لذا كان في بداياته يستخدم أسماء مستعارة خشية اكتشاف هويته والرقابة العسكرية الإسرائيلية القاسية.
وأكد خليل أبو عرفة أن "الكاريكاتير أداة قوية تعكس المشهد السياسي، ولها تأثير كبير، وممارسوه قد يواجهون عواقب وخيمة لمجرد تناولهم مواضيع حسّاسه تقلق أي سلطة، وهو ما يزيد، في الوقت نفسه، من أهمية دوره كفن رياديّ في إبراز معاناة الشعب ومقاومته".
وأعرب عن إعجابه بادئ الأمر بالتجربة السوفييتية التي كان يرى فيها بديلاً للقوى الإمبريالية، إلا أنه أدرك أنه كان مخطئاً، خاصة بعد مغادرته الاتحاد السوفييتي، حيث تكشفت له الحقائق عن الحزب الشيوعي السوفييتي.
وسرد الفنان خليل أبو عرفة حكايات عن العمارة السوفييتية، من بينها تلك التي تتعلق بكيفية اتخاذ ستالين لقرار حول تصميم واجهة مبنى، ما يعكس مدى الخوف الذي كان يشعر به المعماريون السوفييت من النظام الشمولي في بلادهم، كما تطرق للتغييرات الجذرية التي شهدها المشهد المعماري في روسيا نتيجة العولمة، وكيف بدأ المهندسون المحليون في مواكبة المدارس المعمارية العالمية.
بعد عودته إلى فلسطين في العام 1983، عمل في قسم الترميم وصيانة المباني التاريخية لمدة ثلاث سنوات، قبل العمل في التدريس بجامعة بيرزيت، لينخرط في "عملية تشكيل الهوية الوطنية في فترة ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، حيث كانت الجامعة تشكل مركزاً للفكر والحركة الثقافية".
بدأ في جامعة بيرزيت، بتدريس مادة مهارات التواصل البصرية، ما ساعد الطلاب على تطوير قدراتهم في التصميم، ثم تحوّل إلى تدريس التصميم، حيث كان يشهد على تطور أداء طلابه الأكاديمي، ما جعله يشعر بالفخر لارتباطه بطلابه الذين أصبحوا لاحقاً أكاديميين ومعماريّين مميزين في المجتمع، وعلى المستوى العالمي.
وكشف أبو عرفة، خلال الحوارية، الأجواء الجامعية التي كانت تعكس حالة من النشاط السياسي المكثف، ما أدى إلى إغلاقها، موضحاً كيفية تفاعل الطلاب مع النشاطات السياسية رغم الضغوط، لافتاً إلى أنه كان يتم عقد الدروس في عدة أماكن خارج الجامعة نظراً للإغلاق الاحتلالي، ما ساهم في دعم روح الإبداع والتعاون بين الطلاب.