تاريخ النشر: 05 تشرين الثاني 2024

"سياج الغزالة" لناصر رباح.. سرديّة الحجر الفلسطيني!

 

كتبت بديعة زيدان:

 

انطلق الكاتب والشاعر الفلسطيني ناصر رباح، في روايته "سياج الغزالة"، الصادرة حديثاً عن منشورات المتوسط في إيطاليا، من مقولة للروائي الفلسطيني بسام أبو شاويش، وصفها بالمفتتح، ونصّها: "الآن.. وهنا. حيث لا رُسل، ولا أنبياء، ولا قدّيسين، آن للحجارة أن تتكلم".
وعادت السردية اللافتة فكرة ومضموناً، إلى قرن ماضي، عبر حكاية أخوين فلسطينيين من المجدل في حقبة الحكم العثماني للبلاد، ورثا أرض والدهما، واقتسماها حارميْن شقيقهما الأكبر من حقه، لكونه يعاني مرضاً عقلياً، هما اللذان لم يتمكنا من الإنجاب رغم زيجاتهما المتعددة، حد أن وضعا حجراً في منتصف الأرض (حجر المنتصف) يفصل بين ميراث كل منهما في الأرض، قبل أن يقررا تزويج الأخ الأكبر حين بلغ الستيّن من امرأة تخدمه، فتنجب له طفلاً ذكراً، يتفقان على قتله بذات الحجر الذي بات قاتلاً.
بعد عقود يتنقل الحجر الفلسطيني إلى حِجْرِ "إيالا"، المستوطنة اليهودية العراقية التي تستقر في مستوطنة "نتيفوت" شمال غربي صحراء النقب، وإلى الشرق من قطاع غزة، بعد أن تعثرت دراستها في ألمانيا، في حين بقيت والدتها في "دوسيلدروف" بألمانيا، رافضة مرافقتها إلى البلاد التي باتت تُدعى "إسرائيل"، قبل عودة جارتها وصديقتها "أم فؤاد" اللاجئة التي حطت بها الأقدار في ألمانيا، بعد تهجيرها بفعل جرائم العصابات الصهيونية، من المجدل الفلسطينية.
كان قدوم "إيالا"، أو "الغزالة" بلغة المُحتل، في العام 1994، التي رفضت كما ألمانيا الاعتراف بشهادتها الجامعية في النحت لكونها من جامعة عربية، وتحديداً عراقية، ليمنحها سارقو الأرض مزرعة وبيتاً في مستوطنة قريبة من قطاع غزة، إضافة إلى مخصص شهري، على أن تزرع "البندورة"، دون أن يفارقها شغفها النحتيّ، فجمعت الكثير من الحجارة بأحجام مختلفة، والأزاميل والشواكيش المعدنية والخشبية والمناشير الكهربائية، حتى عثرت على "تلك الصخرة الكبيرة من الحجر الرملي الرسوبي، والتي وجدتها جوار مكب النفايات"، و"حملتها على مقطورة الجرّار الزراعي، ليضعها اثنان من العمّال في وسط المكان.
والعمّال في مزرعة "إيالا" التي كانت كثيراً ما تدندن أغنيات عرقاية وتبكي، جميعهم من قطاع غزة، وتحديداً من مخيم المغازي، ومن بينهم "حسين"، و"سمرا" التي ترتبط بعلاقة وثيقة معه، كما مع التمثال الذي تصنعه المستوطنة اليهودية العراقية من الحجر القاتل، أو حجر المنتصف، بل وباتت تربطها بصاحبة مستوطنة "البندورة" علاقة خاصة.
وتكوّنت هذه العلاقة بسبب إدراك "سمرا" لماهية التمثال، التي وصفته بتجاويف تشبه إلى حد كبير رأساً طويلاً ونحيلاً لرجل على وشك الموت حزناً.. ولم تكن "سمرا" تهتم بالسياسة، ولا بإسرائيل وبالاحتلال، فإيالا بالنسبة إليها مجرد امرأة جميلة وفاتنة، لديها بيت جميل ونظيف، وتصنع ما لا تصنع نساء جغرافيتها النائية، وتتبادل الحديث مع الرجال مكشوفة الرأس والصدر والساقين، لكن ما كان يهمها أن صاحبة المزرعة لم تكن "داعرة" كما يشيع عنها الرجال الذين عملوا لديها، وتناولوا منها أجورهم، وحرصوا على التقرب إليها طوال الوقت.
ولـ"حسين" شقيق يعرف باسم "جعفر القط"، وهو الذي التصق لقب "القط" به منذ كان صغيراً، على إثر ضمورٍ في ساقه اليمنى، ما حرمه من المدرسة وحتى العمل في المستوطنة كشقيقه، ومن قبله والدهما.
ورغم حصول تمثال "إيالا" الباكي على الجائزة الأولى في مسابقة إسرائيلية للأعمال النحتية، وبدء بروز اسمها كفنانة، إلا أنها كانت تشعر بالاغتراب في المستوطنة، وتسيطر عليها نوستالجيا إلى حيث ولدت وترعرعت ودرست في بغداد.
ومع ذلك تبدأ جولاتها العالمية رفقة تمثالها الذي باتت تسميه "حجر الندم"، بعد أن رحلت والدتها في ألمانيا، ولم تبقِ لها ميراثاً إلى كلبها "كافكا"، الذي ينتقل إلى ذات المستوطنة.
وقبل عرض التمثال الباكي في المتحف الوطني الجديد ببرلين، كانت ترشح من التمثال مياه أفسدت الورقة الملتصقة الشارحة لماهيته، خالها القائمون من آثار مطر اليوم السابق، لكن تكرّر الحادثة وبدرجة متزايدة عند قاعدة التمثال، الذي كانت احتضنته "سمرا" قبل سفره، دفعت "إيالا" إلى التصريح بأنه يبكي، الأمر الذي لمسه الجمهور الذين مسّ فيهم ذكرياتهم الشخصية المؤلمة، قبل أن يُسبتعد من المعرض ومسابقته، ما دفع الإسرائيلية العراقية إلى اتهامهم بـ"معاداة السامية"، فزجتها السلطات الألمانية في مصحة عقلية لمنع أزمة دبلوماسية بين ألمانيا وإسرائيل، قبل أن تنضم لحزب "ميرتس" بعد انتهاء أزمتها، وتنسى مع الوقت بغداد وألمانيا و"سمرا".
في "المغازي" يعمد "حسين" إلى تزويج شقيقه "جعفر القط" من "سمرا"، التي توافق خشية افتضاح علاقتها بأخيه، تلك العلاقة التي تفاقمت بعد زواجها من "القط"، الذي أنهى حياة شقيقه بيده قاتلاً ودافناً إياه بعد اكتشاف الأمر، لكن "حسين" يخرج، بعد عشرين عاماً من تحت التراب، مرّة أخرى في حرب الإبادة المتواصلة، وقصف طائرات الاحتلال للمقابر، ليتحدث ويشعر بما يشبه اللاشيء، في رحلة تلاشٍ جديدة كأنها موت آخر للموتى، دون أن يتوجه إلى "فرحة" ابنته "سمرا"، وأصبحت "عضواً مهماً في أسرة المسجد الكبير وكاتمة أسرار جمعية الأخوة في الله"، التي تهجرها لاحقاً.
بعد الحرب السورية يعج المتحف حيث كان يقبع التمثال في قبوه باللاجئين، فيقرر أحد القائمين على القبو إرساله إلى صاحبته، وهنا يعود إلى "إيالا" مجدداً في مستوطنة "نتيفوت"، ما يعيدها بالذاكرة إلى سني شبابها في بغداد، حيث كان حبيبها الشيعي "سعدون"، أي حيث "الحب المستحيل" بين مسلم شيعي ويهودية، وهو "الحب المستحيل" ذاته بينها كفنانة يهودية تعيش في أرض فلسطينية مُغتصبة، وما بين حجر فلسطيني، فتقرر وخاصة بعد أن باتت الحياة في مستوطنات غلاف غزة صعبة بسبب صواريخ المقاومة، أن تذهب بالتمثال إلى "سمرا" في غزة عبر قوافل المساعدات الإنسانية.
وتنجح في الوصول مع التمثال "المشؤوم" إلى "سمرا" التي فقدت عقلها، بسبب ما وجدت فيه "إيالا" لعنة "هذا المسخ"، فينتهي به الأمر تحت وقع رصاصات "رجال المقاومة" بعد أن شّكوا في أمر المستوطنة والشحنة المرافقة لها، فأمطروا الصندوق بالرصاص، وكأن الحجر تحت وقع الرصاص الفلسطيني، فقد تكوينه الإسرائيلي، وعاد حجراً، ولو مُفتتاً، أو مهشماً في صندوق إلى أرض فلسطينية باتت هي محور "القتل"، و"الندم"، و"الشؤم"، وغير ذلك من تلك الأوصاف التي ارتبطت به، منذ كان "حجر المنتصف".
وتمكّن ناصر رباح في رواية "سياج الغزالة"، عبر السرد وما وراءه، من تكوين نحت حكائي مدهش، اقتسمت الشخوص فيه مهمة القصّ، في رحلة ذهاب وإياب بين الأزمنة والأمكنة، بطريقة متمكنة، وأحداث قابلة للتأويل المتشعب، دون إغراق غير مبرر في الترميز، ودون تسطيح، ليخرج وهو الذي يعيش النزوح المتواصل في القطاع الذي لا يزال يباد فوق إبادته، بعمل إبداعي، يحمل من التأويل الكثير، ويُعالج ثيمات عدّة، تتكامل دون أن تصطدم إحداها بالأخرى محدثة خدوشاً أو تصدعات في بنية النص الجوّانية أو البرّانية، عبر أكثر من صراع بيننا وبين النقيض، وبيننا وأنفسنا، وبين النقيض ونفسه، غير متجاهل للحرب التي يعيش ويعايش يوميّاتها، والموت الفارد جناحيه حاجباً الشمس عن حيث هو.
تأتي هذه الرواية في زمن لا يزال فيه الحجر الفلسطيني، منازل وبنايات وأحياء وجامعات ومدارس ومواقع أثرية ومنحوتات، ورغم إبادته إسرائيلياً، في تقاطع المآلات مع التمثال الباكي، يرفض التماهي مع أي تركيبة جديدة عابرة للمحتل المستوطن المتسعمر الوحشي، فالحجر يعود ليحكي ويبكي ويتهشم في غزة.
ولعل من الضروري أن نعيد سرد شيء من الحكاية على لسان الحجر نفسه.. "حملني رجلان من مكاني. ظننتُ أنهما سيعيدان تقسيم الحدود بينهما، وأن مكاني الذي يقسم الحقل نصفين سيغيّر.. نعم، كنتُ حجر النصف، لي مكاني ولي وظيفتي، لكنهما، وعلى غفلة منّي، أسقطاني فوق رأس طفل رضيع، فقتلتُ الطفل، وتوشّحت بالدماء.. كنتُ فيما مضى مجرّد حجر لا يعني لي المطر شيئاً، مجرّد عابر يزيح عنّي غباري، لكن ذلك المطر الذي غسلني من الدم مرّر لحبّات رمالي شعوراً غامضاً بالنقاء والتألق، لم أكن أعرف أن ذلك المطر سيجعل مني حجراً سعيداً.. فتاة غريبة عن المكان حملتني من جوار الوادي، ووضعتني في مكان غريبٍ أيضاً، كانت تحمل إزميلاً عريضاً ومطرقة، قامت بتهشيم جوانبي، وصار لي عينان حزينتان.. كان وقتي يمرّ بسرعة، فأنا أتغيّر من مكان إلى مكان، ومن شكل لآخر، وهذا ما لم يمرّ بي منذ تشكلي للمرة الأولى حين ترسّبت رمالي فوق بعضها في ذلك الوادي، واختلط بها فتات معدني لعناصر من حديد وكلس سارعت في جعلي صلباً وثقيلاً، لذا كنت متوتراً وخائفاً.. شعرتُ بقلق على وجودي، فربّما تستمرّ تلك الفتاة في تحطيم جوانبي حتى النهاية، لكن ذلك لم يحدث، فقد توقفّتْ واكتفتْ بما فعلت بي، وشرعت بالنظر حولي، والبكاء.. كدتُ أبكي، فأنا حجر قاتل بريء، أحمل ندمي وبراءتي معاً، هشّمتْ جوانبي فتاة تتفحصني وتدور حولي، جعلت لي عينين وأذنين، كنتُ على وشك البكاء لولا أن جاءت فتاة أخرى وكلمتني، غنّت لي ومسحت عن وجهي الجديد الغبار، لن تصدقوا لو قلت لكم كانت تحضنني.. نُقلتُ من بيت إلى بيت مرافقاً الفتاة التي نحتت وجهي، وجعلت مني شيئاً مختلفاً عن مجرّد حجر، فصرت شيئاً له اسم ومعنى، صرت علامة فارقة عن بقية صخور الوادي المنسية، يغلفونني بالقش ويحفظون مكانتي بصندوق خشبي، ويطلقون نحوي أضواءً لامعة، ويواصلون التحديق في ملامحي الجديدة، لكني حجر سيئ الحظ، فلم أكن سعيداً بهذا الضجيج والاهتمام، كنت أنتظر بشدة حضور المغنيّة الصغيرة لتحتضنني، أنتظر رائحة حشائش الوادي وفراء أغنامه العالقة بثيابها".
هي سردية قد تكون ابنة حرب الإبادة، وربّما ابنة الخيمة، لا يهمّ، وإن كان الخروج بهكذا سرديّة أو استكمالها من قلب خيمة أو تحت القصف، أمر إعجازي، وليس ضرورياً جداً الربط ما بين استيطان النحّاتة في مستوطنة في غلاف غزة العام 1994 بدلالاته في التاريخ الفلسطيني الحديث، أو ما إذا كان عثور مزارع غزي، قبل عامين أو يزيد قليلاً، على تمثال لإلهة كنعانية أطلق عليها علماء الآثار "إلهة الدموع" لوجود علامة دمعة تحت عينها، نقطة انطلاق لفكرة الرواية.. المهم، برأيي، في "سياج الغزالة"، أننا أمام سردية فلسطينية تستحق التأمل، والقراءة أكثر من مرّة، ففي كل قراءة متعة جديدة، وكشف جديد عمّا تحويه من دلالات مستترة، وقبل كل ذلك هي اكتشاف لروائي مبدع، هو الفلسطيني ناصر رباح.