يهدي غسان كنفاني روايته «ما تبقى لكم» (١٩٦٦) إلى «خالد» العائد الأول الذي لا يزال يسير، وخالد، كما في بعض الدراسات، هو الشهيد خالد أبو عيشة المولود، في العام ١٩٤١، في قرية «السكر» قضاء عكا، وكان واحداً من الشباب الثائرين المؤمنين بأن قضيتهم جزء من قضايا الأمة العربية.
انضم إلى منظمة «شباب الثأر»، وشارك قبل بروز العمل الفدائي مع رفاقه في مسح الأرض المحتلة شبراً شبراً، استعداداً لبدء الكفاح المسلح، واستشهد عندما اشتبكت مجموعته بقوة صهيونية في ٢/ ١١/ ١٩٦٤ في منطقة «إدمث» على الحدود اللبنانية، إثر معركة استمرت ثلاث ساعات ونصف الساعة، قتل للعدو فيها أكثر من عشرين جندياً، وهي المعركة التي أسر فيها المناضل اللبناني حسين رمضان. «هكذا افتتح خالد طريق الكفاح المسلح».
وقد يكون كنفاني استوحى شخصية حامد في روايته «ما تبقى لكم» من شخصية خالد، وقد ذهب إلى هذا دارسون عديدون رأوا أن حامد هو المعادل الفني له.
ما الذي ذكرني برواية غسان كنفاني المذكورة؟
يوم الأحد الماضي ٢١/ ٤/ ٢٠٢٤ أجرت معي صحافية جزائرية (Benmeziane Sarah) لقاء عن أدب النكبة الفلسطيني وغسان كنفاني وجهت لي فيها أسئلة عديدة حولهما وخصت بالذكر رواية غسان المذكورة، والأسئلة، كما كتبتها لي، هي:
- لو تتحدث عن السياق التاريخي الذي نشأ فيه أدب ما بعد النكبة. كيف تقرأ ذاك السياق الذي نشأ فيه هذا الأدب؟ وما هو الفرق بين أدب ما قبل النكبة وأدب ما بعد النكبة؟
- يقول جون لوك غودار إنه من العام ١٩٤٨ كان على الفلسطينيين تصوير مأساتهم، بينما كان على الصهاينة اختراع سردياتهم. ما تعليقك؟
- يوصف غسان كنفاني بأنه (فرانز فانون) الثورة الفلسطينية. ما هو دوره في بناء المتن السردي للرواية الفلسطينية؟ رأيك؟
- رواية «ما تبقى لكم» كانت من أهم رواياته، فقد جسد فيها الوعي والتبشير بقدوم جيل جديد في غزة سيباشر حركة التحرير. إلى أي مدى قاربت هذه الرواية ما يحدث اليوم في غزة؟
- من من الكتاب والروائيين الفلسطينيين قارب النكبة أكثر.. النكبة بتفاصيلها وبشاعتها؟
وقد جعلتني أسئلتها أمعن النظر في الفرق بين الأدب المكتوب قبل النكبة والأدب المكتوب بعدها، وقد لخصت إجابتي بعبارات قليلة.
كانت فلسطين حتى العام ١٩١٧ زاوية شبه مهملة في الإمبراطورية العثمانية، إذا ما قورنت بالقاهرة وبيروت، وكان الأدب فيها تقليدياً وجزءا من الأدب العربي موضوعاً وأسلوباً، وقد عد إبراهيم طوقان رائد الشعر الفلسطيني وحامل لوائه (ولد في ١٩٠٥ وتوفي في ١٩٤١)، وحتى ١٩٢٠ لم تصدر أية رواية فلسطينية وفي العام ١٩٢٤ صدرت المجموعة القصصية الأولى.
وإذا ما أمعنا النظر في شعر طوقان وشعر «أبو سلمى» فإننا نلحظ أن الغلبة عليه تتمثل في التنبيه لما يجري والخوف من المستقبل والدعوة إلى التشبث بالأرض ومقاومة بيعها وهجاء الزعماء العرب لموقفهم المتخاذل، وهذا أكثره صار بعد النكبة في عداد الماضي، ولقد صار الفلسطينيون لاجئين بعد أن فقدوا أرضهم، فعاشوا في الخيام مشردين يحنون إلى الماضي ويتطلعون إلى العودة، وهذا ما صوره الأدباء الفلسطينيون، وهنا أصاب (غودار).
في المقابل واصل الإسرائيليون اختراع سردياتهم وتحقيقها على أرض الواقع، وقد بدأ هذا واضحاً، منذ العام ١٩٠٢، في رواية (ثيودور هرتسل) «أرض قديمة جديدة» التي صور فيها ما ستكون عليه فلسطين بعد عشرين عاماً من إقامة الدولة اليهودية فيها، ورأي (غودار) هذا عموماً هو ما رآه غسان كنفاني في كتابه «في الأدب الصهيوني» (١٩٦٦) حين ذهب إلى أن هذا الأدب يضبط إيقاع السياسة.
هل من صلة بين الرواية وأحداث ٧ أكتوبر؟ هل تنبأت الرواية بها؟
جرت أحداث الرواية في غزة وعلى أرض صحراء النقب، وهو ما يجري الآن وما جرى في بداية الحرب، وانتهت الرواية بأسر حامد الجندي قبل قتله، وفي رواية «عائد إلى حيفا» نطقت شخصيتها الرئيسة سعيد. س، حين لاحظت عنجهية خلدون/ دوف الجندي الإسرائيلي، بعبارة «تستطيعان البقاء مؤقتاً في بيتنا، فذلك شيء تحتاج تسويته إلى حرب».
لم تنهِ اتفاقية أوسلو الصراع ولم ينجز الحل النهائي، فانتفض الفلسطينيون في العام ٢٠٠٠ واندلعت عدة حروب في غزة وما زالت الحرب مستمرة.
ما زال الفدائي الأول يسير وما زال حامد يقاوم. كأن ما حدث في ٧ أكتوبر هو تجسيد لطروحات الروايتين الكنفانيتين.
وبقي السؤال: مَنْ مِن الروائيين الفلسطينيين قارب النكبة أكثر... النكبة بتفاصيلها وبشاعتها؟
شغل السؤال عن علامات روائية جديدة في الرواية الفلسطينية، بعد كنفاني وحبيبي وجبرا، بال روائيين ونقاد وقراء كثيرين، وما زال مثاراً، وأظن أن السؤال السابق لا يختلف كثيراً عنه، ومع ذلك فقد قارب النكبة بين ١٩٤٨ و١٩٦٧ سميرة عزام وكنفاني وشعراء تلك الفترة، وبعد ١٩٦٧ عبر الكتاب عن الواقع الفلسطيني بعد هزيمة حزيران، ليسترجعوا النكبة من جديد منذ العقد الأخير من القرن العشرين.
يحيى يخلف ورشاد أبو شاور وحزامة حبايب وعبد الله تايه وعاطف أبو سيف وكتاب كثر، على أن أبرز هؤلاء كلهم هو الروائي اللبناني إلياس خوري في روايته «باب الشمس» وثلاثيته «أولاد الغيتو».
الكتابة تطول والمساحة محدودة.